بيلي أيليش... تُغنّي حتى لا يسمعها أحد

بيلي أيليش... تُغنّي حتى لا يسمعها أحد

19 مايو 2019
يصعب التنبّؤ بما سيصدُر عنها من تنويعات (Getty)
+ الخط -
لم تكن قد بلغت السادسة بعد، حين دخلت بيلي على والديها، لتخبرهما برغبتها في الغناء على مسرح إحدى مسابقات المواهب. لن تنقضي عشر سنوات أُخر، حتى تُصبح بيلي أيليش أوكونيل، والمُلقّبة فنّياً بيلي أيليش Billie Eilish، فنانة البوب الأكثر إثارة للدهشة والإعجاب؛ يتساءل المُستمع: عما ستأتي به قادمات الأيام والأعوام من فريد واستثنائي، نابع من فيض إبداعات تلك المراهقة الصغيرة؟

ظاهرة الطفل المُعجزة ليست حديثة، إذ إن تاريخ الفنون الترفيهية الحديث يزخر بالشواهد والأمثلة، كل من مايكل وجانيت جاكسون، ستيفي وندر وسيلين ديون، تميّزوا منذ سنيّ حياتهم الِبكر، إلا أن ما يجعل من بيلي أيليش حالة قل نظيرها، هو ليس إبداء المهارة في الأداء، سواء كانت في التلحين أو الغناء، وإنما كسرها للعادات الجارية وإحداثها تغييراتٍ بنيوية في سائد الأغنية التجارية.

قصة نجاح أخرى لأسلوب التدريس المنزلي الذي انتهجته أسرة بيلي، وغيرها من الأسر المغالية في التحرر منذ ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي. نهجٌ يرى في المدرسة مؤسسةً للتدجين لا للتعليم، وأن التدريس في المنزل يمنح الطفل فضاءً أرحب؛ ليكتشف في مجاله، هو وأهله، ميوله الحقيقية ومكامن طاقاته الفعلية، التي ستضمر وتضعف تحت تأثير ممارسات المَنهجة والتعميم في المدارس العامة والخاصة.

كما أن كلاً من بيلي وأخيها وشريكها الفنّي فينيس أوكونيل، من مواليد لوس أنجلس - كاليفورنيا، وتلك اليوم من أشد بقاع الأرض خصوبةً إبداعية، على الأخص في مجال الفنون الترفيهية، سمعية وبصرية، أو التقنيّات الرفيعة، آليّة ورقميّة. في تلك البيئة الحيوية، قام الأخوان بإنتاج جلّ أغانيهما تأليفاً وتلحيناً، وحتى تسجيلاً؛ في المنزل، على الأريكة، وعلى الكمبيوتر الخاص، في غرفة فينيس الصغيرة.

آخر إنتاجات بيلي وأكثرها خروجاً عن المألوف من حيث الشكل/القالب والمضمون/الصياغة والأداء، هي أغنية Bury a friend (ادفن صديقاً) من إصدار الشهر الأول للعام الحالي، والتي اعتمد تسويقها تقنية الدَفَق streaming والتحميل Download، كما صُوّرت الأغنية كـ فيديو كليب موسيقي أخرجه Michael Chaves، صدر آخر الشهر نفسه، وتمّ رَفعه على اليوتيوب ليُشاهَد ويُشارَك.

بعد مشهد درامي مُقتضب ومُظلم، وعلى درجات نبض إيقاعي ثنائي متأهّب ومُنتَظم، يهبط اللحن نزولاً، يُنسج له على آلة الكيبورد الإلكتروني بساطٌ هارموني مقابل ومُتناغم، يوحي بروح موسيقى الباروك من القرن السابع عشر، يحمل اللحن حتى الانحلال. هكذا، تفتتح بيلي الغناء بمجموعة أسئلة، آخرها يرسم مقاصد الأغنية المستوحاة من أفلام الرعب، حيث تقول: أين نذهب، حين ننام؟

تلعب الفضاءات التكنولوجيّة الجديدة دوراً أساساً في جعل الأغنية خارقة للعادة، حيث أن جميع مفاصل الربط بين الأجزاء من خانات Verse وإعادات Chorus (أي تسليم) هي أصواتٌ حيّة لحفّارة طبيب أسنان، أو دهس على حطام زجاج، أو جرس أطلقه فرن خبز صغير إيذاناً بانتهاء التسخين، سُجّلت كلها على تطبيقات الهواتف الذكية، جُمعت وأخذت إلى البيت، لتُعالج رقمياً وتُستخلص منها المؤثرات.

تستمد الأغنية سمة الغرابة وقدرتها على إثارتها للدهشة وإحداثها الصدمة الشعورية تلو الأخرى، من لاتناظر قالبها وابتعاده عن المألوف والمكرور من سيل أغاني البوب التي تغمر الأسواق في كل يوم، وتتشابه حتى التطابق أحياناً لجهة ترتيب أجزاء الأغنية من خانة ومن ثم تسليم ثم خانة وتسليم؛ فقنطرة ثم تسليم من جديد.

التسليم عادةً، أو ما يُعرف في موسيقى البوب بالكورس، هو الجزء المحوري، الثابت والمُتكرّر، الذي تلتقطه الأذن وتحفظه الذاكرة، الغرض منه التوحيد بين أجزاء الأغنية وإبراز شخصيّتها، والتأكيد على طابعها الخاص. أما الخانة فهي المُتغيّر والمُتحوّل والمتُنقّل عبر السرد واللحن، يروي الحكاية ويُقّدم المتن، فيما القنطرة؛ فهي الطارئ الدرامي، المستجد الذي يكسر الرتابة ما بين التسليم والخانة.

بعيداً عن هكذا إطار، تبدو Bury a friend كمن رمى الشكل الرتيب والثابت عرض الحائط، فلا تقوى الأذن على استشراف الآتي والقادم؛ أهي خانة أم قنطرة أم تسليم؟ بذلك، تُبقي الأغنية على أقصى درجات التأهب الحسي والشعوري حتى الدقيقة الثالثة والأخيرة، تتالى الانعطافات والالتفافات، سواءً بالمؤثرات الصوتية، أو الانتقالات الهارمونية، فتمد التجربة السمعية حيويةً وديناميكية.

يبقى صوت بيلي لا مثيل له في محيط الساحة الفنية، ليس لجهة البراعة والبهلوانية التي لأريانا غراندي أو القوة والدرامية عند أديل، وإنما لسمة الصدق التي لديه، وكثافة الشحنة العاطفية التي تصدر عنه، على الرغم من رقّته وهشاشته، فبيلّي إن غنّت، هي كمن تغنّي لنفسها عن نفسها، لا يسمعها أحد، وهي إن قفزت بين النغمات، لا لتُحرز النقاط وتفوز بالألقاب، وإنما لتهب مشاعرها أجنحة ترفعها في الهواء.

حتى في أدائها للجمل الغنائية بأسلوب الريتم والبلوز R&B يصعب التنبّؤ بما سيصدُر عنها من تنويعات أو تنميقات وتطريبات، تراها تهبط لترتكز على فواصل غير مألوفة، أو ترمي بالجملة عالياً نحو عتبة غير متوقعة. صياغتها للجملة الغنائية لا تُشبه بها أحداً، ولا تُذكّر بأحد، ولا يقدر على أن يُعيدها أحد، تلك الفرادة والأصالة تبدو مثار عجب في سنٍ، عادةً ما تجعل من الكبار قدوة للصغار.

من حيث الموضوع، تتبنّى بيلي جِنسَاً تُمكن تسميته بأغنية الرعب والإثارة، فهي بحكم صغر سنها، تبتعد عن الغراميّات المُعتادة في أغاني البوب، مُستقطبةً اليافعات واليافعين من صغار الشبيبة والمراهقين، عبر أغان لها طابع سوداوي وسواسي يتناول الأشباح والحشرات والسيلانات المُخيفة والمُقززة، وإن بأسلوب ساخر لطيف يجمع الكآبة بالمرح والبراءة.

بيلي أيليش، ذات السبعة عشر عاماً، بصحبة أخيها فينيس، تبدو ومن دون أن تدري بالضرورة، كمن يفتتح حقبة فنيّةً جديدة في موسيقى البوب؛ تجمع أدوات العصر وسياقاته الاجتماعية، وتُسخّرها في مَهمّة الطلاق من السائد، وتفكيك المألوف بأشكاله وأنماطه وأساليبه في الكتابة والتلحين والأداء، لتُعيد تركيبه بتفرّد خاص، فتُنتج أشكالاً مُحَدثة ومُدهشة.

المساهمون