أسامة فوزي يغادر جنّة الشياطين

أسامة فوزي يغادر جنّة الشياطين

10 يناير 2019
المخرج الراحل اسامة فوزي (فيسبوك)
+ الخط -
قبل أقل من شهرين، كان المخرج المصري أسامة فوزي يحضر جلسات "أيام القاهرة لصناعة السينما"، ضمن نشاطات مهرجان القاهرة السينمائي، باحثاً عن تمويل لفيلمه الجديد المتعثر منذ سنوات "أسود وردي"، وهو واحد من مشاريع أخرى كان يعمل عليها ويتمنى تنفيذها. لذلك جاء خبر رحيله، أول أمس، صادماً، ليس فقط لأنه أحد رموز السينما المصرية في العقود الثلاثة الأخيرة، ولكونه لم يتجاوز بعد الثامنة والخمسين من عمره، ولكن لأنه كان، وحتى لحظة قريبة جداً، موجوداً وممتلئاً بالأفكار وراغباً في العمل وصنع الأفلام، قبل أن يغيبه الموت ويترك وراءه إرثاً قليلاً من حيث العدد وثميناً جداً من ناحية القيمة. 

واقعية سحرية
تخرج أسامة فوزي من معهد السينما عام 1984، وعمل مساعد مخرج لقرابة الـ12 عاماً، مع عدد من المخرجين الموهوبين في أعمالهم الأولى، مثل يسري نصر الله وشريف عرفة ورضوان الكاشف، وخلال تلك الفترة كان يفكر ويبحث بشكل دائم عن مشروعه الخاص، وشكل الأفلام التي يرغب في تنفيذها، قبل أن يجد ضالته بعد تعرفه على السيناريست مصطفى ذكري في مطلع التسعينيات، وأقرب ما يمكن أن يصف سينماهما المشتركة هو أنها تدور في مساحة أقرب للواقعية السحرية؛ حين يكون ما يحدث شديد الصلة بالواقع ولديه قدرة استثنائية أحياناً على التقاط تفاصيله، ولكن طريقة التعبير عنه وسرده واللغة السينمائية المستخدمة فيه تشعر المتفرج بشيء سحري وغير واقعي.
باكورة أعمال أسامة فوزي، ومن سيناريو ذكري، "عفاريت الأسفلت" (1996)، يحمل تلك "الواقعية السحرية" بوضوح، حيث يدور في عوالم سائقي الميكروباص في منطقة حلوان، ويلتقط بشكل فاعل تفاصيل حياتهم وأحاديثهم العادية، وتكون الشخصيات من صلب الحياة اليومية؛ سائق وحلاق ومتسول ومطرب شعبي وسيدات يعانين من الكبت وخريطة متداخلة من العلاقات الإنسانية والجنسية ضمن مكان واحد. ولكن في مقابل كل هذا "الواقعي"، هناك سحر خفي وطبقة أخرى في حكايات الناس عن أنفسهم وكيف تتحرك الأحداث بهم وما هي الأزمات التي يعانون منها؛ كأن يشعر الحلاق بالحزن ليس لأن شخصاً مات تحت يديه وهو يقص شعره ويحكي له، ولكن لأنه لن يعلم أبداً في أي جزء مات من الحكاية وأي جزء لم يسمعه؟!
بعدها بعامين، أخرج فوزي أشهر أعماله: "جنة الشياطين"، في تعاونه الثاني على التوالي مع ذكري ككاتب سيناريو والممثل محمود حميدة كبطل، مقتبسين رواية "ميتتان لرجل واحد" للبرازيلي جورج أمادو، ويخلقون بها "ديستوبيا" مصرية أصيلة جداً، عن "طبل" الذي يترك حياة عائلته الغنية ويعيش حياة ليلية صاخبة في قاهرة لم تظهر بهذا الشكل في السينما من قبل، وحين يموت يقرر أصدقاؤه سرقة جثته من أجل وداعه بطريقة مناسبة. كان الفيلم أكثر راديكالية في عالمه وأسلوبه من "عفاريت الأسفلت"، ولكن في الجوهر استمر الثنائي فوزي وذكري في مساءلة المواضيع نفسها، عن الموت والعلاقات الجسدية والعالم الخفي للمدينة، وكذلك في التعبير عن حكايتهم بلغة سينمائية لا تشبه أي شيء سابق لها.


بحب السيما 
رغم النجاح النقدي الكبير لفيلم "جنة الشياطين"، وعرضه في مهرجان "لوكارنو" وحصوله على الجائزة الذهبية لمهرجان دمشق، إلا أنه فشل تجارياً، وتسبب بخسائر فادحة لمنتجه محمود حميدة. ونظراً لأن السينما المصرية نفسها كانت تتغير في ذلك الوقت وتصبح أميل للشباب والأفلام الكوميدية، فقد دخل أسامة فوزي منذ ذلك الحين في مرحلة لم تنتهِ حتى رحيله.. ترتبط بالمعاناة من أجل الاستمرار وصناعة الأفلام، والمخرج الذي صنع فيلمين عظيمين في ثلاث سنوات، لم يخرج بعدهما إلا فيملين آخرين في 20 عاماً. 
الفيلم الأول هو "بحب السيما" (2004)، وهو حكاية ذاتية عن نشأته في القاهرة منتصف الستينيات لعائلة مسيحية، وعلاقته وحبه الفطري للسينما رغم التزمت الشديد لوالده، ونال الفيلم تقديراً كبيراً عند عرضه. أما فيلمه الأخير فهو "بالألوان الطبيعية" (2009)، ويستمر فيه على الخط نفسه عن علاقة الفن بالمجتمع والأفكار المتزمتة، والتشتت الذي يصيب صانع الفن أحياناً من محاربة أشباح السلطة والدين من حوله، ولم ينل الفيلم مستوى نجاح أفلامه السابقة. 
منذ تلك اللحظة وفوزي يحاول إنتاج مشروع "أسود وردي"، الذي يعاود فيه التعاون مع شريكه وكاتبه المفضل مصطفى ذكري لمرة ثالثة، ومع التعطل المتتالي على مدى سنوات كان يحاول إيجاد تمويل لمشاريع أخرى، مثل مسلسل "ترنيمة إبليس" قبل عامين، الذي توقف قبل بداية التصوير بأسابيع قليلة. وكان آخر ظهور له في مهرجان القاهرة، يبحث عن طريقة لتحقيق حلم "أسود وردي" وصنْعِ فيلم خامس بعد عشر سنوات من التوقف، قبل أن تأتي وفاته المفاجئة كخسارة كبرى لصانع أفلام مصري لن يتكرر.

دلالات

المساهمون