أن تغنّي لفرارك تحت مسامع "السيد"

أن تغنّي لفرارك تحت مسامع "السيد"

23 يونيو 2020
كان يهتدون في هروبهم بالمجموعات النجمية (Getty)
+ الخط -
في عام 1991، بُثَّت الحلقة الـ17 من الموسم الأول من مسلسل "fresh prince of Bel -Air"، وفيها السيدة بانكس، والدة كارلتون وخالة ويل سميث، التي وُكّلت لتكون معلّمة تاريخ بديلة في المدرسة التي يرتادها ابنها وابن اختها. في بداية الدرس، تنشد السيدة بانكس أغنية بعنوان "Follow the Drinkin' Gourd"، ثم تسأل الطلاب عمّن يعرف معنى هذه الأغنية. يقف ويل سميث، ويشرح أنها أغنية "روحيّة" كانت تستخدم للتخفيف عن العبيد في أثناء عملهم في الحقول، عبر الإبقاء على إيمانهم بالإله، فتعقّب السيدة بانكس بقولها: "كلامك خاطئ سيّد سميث!".

تشرح السيدة بانكس لاحقاً أن هذه الأغنية تنتمي إلى "أغنيات سكك الحديد تحت الأرضيّة"، وهي أغنيات مشفّرة يرددها العبيد ليدلّوا من يريدون الهروب نحو الطريق الأكثر أمناً. مثلاً، أغنية Follow the Drinkin' Gourd، هي كناية عن الاتجاه شمالاً، فالـ Drinkin' Gourd اسم آخر لمجموعة نجوم "بنات نعش"، وهي جزء من تشكيلة نجوم الدبّ الأكبر، أي إنّ من يريد الفرار عليه أن يلحق بها. الأهم أن العبيد حينها كانوا ممنوعين من تعلم القراءة والكتابة، لتأتي هذه الأغنيات الشفهيّة وسيلةً لمعرفة الطريق وعلاماته. هناك العديد من الحكايات الشعبيّة حول هذه الأغنيات، البعض يصدّقها، والبعض الآخر يراها محض خيال.



لكن ما لا اختلاف عليه، هو حركة تحرير العبيد التي اعتمدت سكك الحديد في منتصف القرن التاسع عشر، لنقل الهاربين من الجنوب الأميركيّ إلى الشمال، حيث الحرية، سواء في الولايات التي ألغت العبوديّة، أو كندا، لكن إن تتبعنا كلمات الأغنية نلاحظ المقاطع الآتية:
"الحق بنات نعش.. لأن الرجل العجوز قادم لأخذك إلى الحريّة.. وحين تصبح ضفة النهر طريقاً عظيماً.. الأشجار الميتة ستدلك على الاتجاه.. القدم اليسرى تسافر.. وحين ينتهي النهر بين تلتين.. الحق بنات نعش.. هناك نهر آخر على الطرف المقابل.. الحق بنات نعش.. حين يلتقي النهر الكبير مع النهر الصغير.. الحق بنات نعش.. سيقودك العجوز إلى الحريّة".

يقال إن الأسطورة الشعبيّة حول هذه الأغنيّة تطورت في كتاب "أغنيات وأناشيد شعبية أميركيّة" لجون لوماكس، الصادر عام 1934، إذ يروي قصة بحّار بساق خشبيّة يسرى، وكان يقوم برحلات بين الشمال والجنوب لتهريب العبيد، وهذا ما نراه في الأغنية عن القدم اليسرى، وهي أثر قدمه في التراب، وضفة النهر الأول المقصود بها نهر تومبيغي، ثم نهر أوهايو، وهكذا... فكل كلمة مرتبطة بمعلم جغرافي، ورجل مسؤول عن الرحلة شمالاً.



الكثير من هذه الأغنيات تتطابق فيها الحكايات الإنجيلية مع معاناة العبيد، فيسوع أو موسى هو المخلص، أما العبيد فهم اليهود الذين استعبدهم فرعون، ولا بد لهم من الرحيل إلى القدس كما في أغنية "إلى الأسفل يا موسى - Go Down Moses"، والأسفل المقصود به هنا الجنوب، بصورة أدق الميسيسبي، حيث كان العبيد يتعرضون لأقسى أنواع العنف. والمثير للاهتمام أن لويس آرمستروغ أعاد الأغنية إلى الصدارة عام 1958 حين سجلها في نيويورك في خضمّ حركة الحقوق المدنيّة في الولايات المتحدة.

الأهم أن "موسى" المذكور في الأغنيّة، هو اللقب الذي نالته هاريين تابمان (1822-1913)، المناضلة في سبيل حقوق العبيد وتحريرهم، فبسبب رحلاتها العديدة إلى الجنوب وتحريرها لأفراد أسرتها وعشرات العبيد، لقبت بـ"موسى". الأغنية كانت تردد بين العبيد إنذاراً بقدوم تابمان، التي حسب الكلمات تتجه جنوباً، لتخبر "فرعون" بأن وقت الحرية حان.
تحيط بتابمان العديد من الحكايات، وكل أغنية رددتها تحمل داخلها معنى سريّاً. فمثلاً، في أغنية "Wade in the water" كانت دعوة للعبيد الفارين للنزول إلى الماء، وذلك كي لا تتمكن الكلاب من شمّ رائحتهم، وبالتالي إعادة أسرهم، وفي حال ابتعادها عنهم لإحضار الطعام، لكونها حرّة، وهم في مخبأهم، كانت الإشارة كي يخرجوا، دندنتها لذات الأغنية مرّتين، ما يعني أن المكان آمن لهم.

الطريق هو الموضوعة الأكثر حضوراً في هذه الأغنيات. هناك دوماً درب لا بدّ من عبوره، والمثير للاهتمام مشروع "الموسيقى الجغرافيّة" الذي عمد إلى تحليل الموسيقى الروحيّة وموسيقى العبيد، لرسم خرائط لأميركا من هذه الأغنيات، وكيفية الانتقال والحركة عبر متخيّل للمكان مختلف عن ذاك الرسميّ، متخيل عبر الموسيقى يقسم الأرض إلى مساحة خطرة وأخرى آمنة، طرقات سرية وفرعية تحضر فقط ضمن الموسيقى، والأهم القدرة على فك شيفرتها.



هذه الأغنيات ظهرت إلى العلن بداية عبر التدوين، ومحاولات عدد من الكتاب "تأريخ موسيقى العبيد"، وفي ذات الوقت جهود مكتبة الكونغرس للحفاظ على "الموسيقى العرقيّة" أو "الموسيقى السوداء". هنا تكمن إشكاليّة المصادرة التي قام بها "السيد" لتراث العبد وكلماته، وخصوصاً أن هذه الأغنيات تحولت لاحقاً إلى تراث موسيقي عالمي، لكن ما زالت المعاناة التي تعكسها قائمة، ومحاولة مصادرتها من قبل "البيض" ليست إلا سذاجة أو تعاطفاً مبتذلاً أو جهلاً متقنعاً بحرية التعبير وإنسانيّة الفنون. لكن في النهاية، نحن أمام أغنية عن المعاناة قد تتحول إلى أغنية للرقص والمرح، كما حدث عام 1988، حين بدأ مشجعو فريق إنكلترا للرغبي بإنشاد "Swing Low Sweet Chariot"، ما أثار غضباً عارماً وموجة من الانتقادات، وخصوصاً لنزعها من سياقها بهذا الشكل.

ارتبط تاريخ "الموسيقى السوداء" - الكلمة التي لا ترجمة دقيقة لها - بالصراع السياسي، وكانت الأغنيات في كلّ مرة أسلوباً لمواجهة السلطة، سواء كانت جاز، أو بلوز، أو حتى راب، كلها تحوي دلائل وإشارات على طريق ما. فإن كانت موسيقى العبيد ترى الخلاص بالرحيل أو عبور الدرب، فالمقاربة الآن مختلفة، إما المواجهة وتسمية المستغلين والقتلة بأسمائهم كحالة أغنية الراب الشهيرة لـ NWA التي تحمل اسم "F**k the police"، أو تمكين الوجود الملون والتشديد على وصوله إلى قمّة الهرم الثقافي كما في أغنية Jay-z وبيونس APESHIT، التي يتحركان فيها في متحف اللوفر، أوج الثقافة البيضاء والاستعماريّة، ويعلنان استملاكه والسخرية من روائعه الفنيّة.

لكن جغرافيات العبوديّة التي كشفتها الموسيقى، لم تتلاشَ كلياً، بل بقيت شفهيّة، رموزها متناقلة عبر الكلمات والألحان، الاستغلال في العمل وعنف الشرطة والخلاص لم يتغير، بل بلغ أوجه، فالموسيقى ولو كانت مساحة للحوار بين الأعراق وأسلوباً لكسر الحواجز، إلا أن الطريق ما زالت تحرسه الشرطة والدولة اللتان تصطادان كل من يحاول الفرار.

المساهمون