مجلات المغرب السينمائية: أزمة نقد وارتباك ممارسة

مجلات المغرب السينمائية: أزمة نقد وارتباك ممارسة

25 ابريل 2019
كانت المجلات الثقافية في السبعينيات شاملة وغير متخصصة (Getty)
+ الخط -
لا يُمكن نكران الدور الكبير الذي لعبته مجلات مغربية بعد الاستقلال، في القطع مع ثقافة مغربية تقليدية، منسلّة آنذاك من قوى يمينية، عطّلت تقدّم الفن المغربي. مجلات ثقافية يسارية، كـ"أنفاس" و"الثقافة الجديدة" و"المقدمة"، أحدثت ثورة في الثقافة المغربية بمفهومها الأنثروبولوجي (إدوارد تايلور). لكن هذه المجلات، الصادرة في سبعينيات القرن العشرين، لم تُقِم حدودًا بين الأجناس والمعارف التي تتضمّنها المجلات، إذْ يصطدم القارئ بتنوّعٍ يضمّ الشعر والمسرح والقصة والسينما والفن التشكيلي، وغيرها. 

مع نهاية الثمانينيات الفائتة، بدأت تظهر مجلات شبه متخصّصة، كـ"سينما 3" (باللغة الفرنسية) لنور الدين الصايل، و"دراسات سينمائية" (الجامعة الوطنية للأندية السينمائية)، وغيرهما من المجلات المهتمة بعالم المرئيّ، كـ"الفنون المغربية" و"سينما وتلفزيون" و"أفلام".

ظهور مجلات سينمائية اليوم، كـ"المجلة المغربية للأبحاث السينمائية" (خليل الدامون) و"سينفيليا" (عبد الكريم واكريم) و"وشمة" (جمعية أصدقاء تطوان للسينما)، حرّر الثقافة السينمائية من الطابع الشفهي، الطاغي عليها منذ الثمانينيات المنصرمة. وبالتالي، لم تُوثَّق تلك المواضيع والأسئلة والنقاشات المحمومة والمتعلّقة بالتغيير، والهادفة إلى سينما مغربية أفضل، داخل الأندية السينمائية، التي أدّى فيها الفكر اليساري دورًا كبيرًا في تنمية أفقها الفني والجمالي. لذا، فإن ندرة المجلات السينمائية المغربية المتخصّصة، أو غيابها عن الصورة وعوالمها ومآلاتها، في ظلّ طفرة المعلومات التي عرفتها وسائل الاتصال الحديثة، وما أحدثته من تأثير كبير على الصناعة السينمائية، ضاعفا (الندرة والغياب) من يُتْمِ هذه الصناعة، والحكم عليها بالضعف والوهن.

مخرجون ونقاد مغاربة، يديرون مجلات سينمائية مغربية، أجابوا على تساؤلات عن واقع هذه المجلات، ومدى جدّيتها وتنوّعها وإسهامها المعرفي في المشهد الثقافي العربي، وغيرها من المواضيع الحرجة المرتبطة بهذه الصناعة.

يؤكّد الناقد عبد الكريم واكريم أن المجلات السينمائية الرائدة مغربيًا، كـ"سينما 3" و"دراسات سينمائية"، ساهمت بشكل كبير في نشر الثقافة السينمائية، في وقت كانت الأندية السينمائية رافدًا مهمًا لنشر هذه الثقافة. أضاف أن "دراسات سينمائية " كانت تُوزّع عبر هذه الأندية، لا بالشكل التقليدي. بالنسبة إليه، هذا كافٍ لضمان صدورها فترة طويلة نسبيًا، و"الاستمرار المؤقّت" مقارنة بمجلات سينمائية أخرى، كون هذه الأندية في تلك الفترة "شهدت إقبالاً كبيرًا، وضمّت منتسبين إليها في المغرب كلّه، حتّى في الأماكن النائية".
وعمّا إذا كانت المجلات التي تصدر اليوم "سينمائية نقدية، أو مطبوعات صحافية"، يقول واكريم: "أظنّ أن لـ"المجلة المغربية للأبحاث السينمائية" (جمعية نقاد السينما) و"سينفيليا" طابعًا خاصّا، وخطًّا تحريريًا يميّز كل واحدة منهما.
فللأولى طابع أكاديمي، وهي تخاطب النخبة، وتُصرُّ على إنجاز ملفات حول سينمائيين مكرّسين يحفظ الـ"سينفيليون" جميعهم أسماءهم؛ بينما "سينفيليا" خطَّت لنفسها، منذ بداياتها، خطًّا تحريريًا يركّز على أمرين: متابعة ومساندة ومواكبة السينما المغربية وجديدها، نقديًا لا إخباريًا؛ ونشر مقالات نقدية سينمائية لا تدّعي الأكاديمية المفرطة في نخبويتها، بل تطمح إلى التواصل مع قرّاء و"سينفيليين"، بغض النظر عن انتمائهم إلى النخبة المتخصّصة، طامحة إلى نشر الثقافة السينمائية لدى القراء ومحبّي السينما، لا إلى الانغلاق على دوائر محدودة فقط". بالنسبة إليه، انفتحت "سينفيليا" أيضًا على "أقلام نقدية عربية، تنشر لأصحابها باستمرار مقالات عن السينما والأفلام العربية، أو مواضيع عن السينمات العالمية".

لذا، فإن المجلتين، والمجلات الأخرى كلّها، التي صدرت وتوقّفت أو التي لا تزال تصدر، ليست "إخبارية تواكب أخبار النجوم"، بل "نماذج متشابهة تحاكي المجلات السينمائية الفرنسية، في محاولاتها خلق صحافة نقدية متخصّصة، مغربية وعربية، رغم صعوبة ذلك، بسبب ظروف الاشتغال وصعوبة استمرارية الصدور، فالمجلات السينمائية في المغرب تتوقف بعد فترة من صدورها لصعوبات مادية، ولضعف القراءة والتوزيع، وهي الأسباب نفسها التي نتعرّض لها في مجلة "سينفيليا"، رغم مقاومتنا. فحتى الدعم الشحيح من وزارة الثقافة، الذي تقرّر منحنا إياه، عطّله الوزير لأسباب نجهلها".

إلى ذلك، يظنّ عبد الكريم واكريم أن أحدًا لم يتمكّن من بلوغ مرحلة إصدار مجلة سينمائية مغربية لها خط تحريري واضح، "يجعلها تبلور رؤى وتصوّرات ربما تشكّل نوعًا من المدرسة النقدية، كحال المجلتين الفرنسيتين "دفاتر السينما" و"بوزيتيف". وهذا للأسباب المذكورة أعلاها، التي لها دور مهم في هذا، فالنقّاد السينمائيون المغاربة والعرب لا يقلّون كفاءة وامتلاكًا لتصوّرات ورؤى متميّزة عن نظرائهم الغربيين. لكن، لا يمكن أن تكون هناك مجلة سينمائية بشروط عالمية، تضمّ تصوّراتهم وتجعلها تذوب في مشروع نقدي واضح المعالم، ومتبلور مغربيًا وعربيًا، من دون توفر ثقافة فنية وسينمائية (ولو أولى) لدى القراء، ومن دون توفر إمكانيات مادية مهمّة لمشروع كهذا". هذا غائبٌ حاليًا، فهناك "تراجع في الاهتمام بالسينما، حتى في الصحف اليومية، التي كانت تخصّص سابقًا صفحات سينمائية، فسادت الأمية البصرية".

محمد الشريف الطريبق:
المجلات الطليعية ذات بعد يساري
يرى المخرج محمد الشريف الطريبق أن خصوصية المجلات الأولى "مرتبطة بسياق تاريخي ـ سياسي ـ اجتماعي مختلف عن اللحظة التي نعيشها اليوم، إذْ كانت حركة الأندية السينمائية قوية في المغرب، الذي يمتلك عددًا كبيرًا من الصالات السينمائية". يُضيف أن هذه الأخيرة "كانت تبرمج يوميًا أفلامًا عربية ودولية، وبثقافة الندرة، إذْ كانت المجلات السينمائية الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يحدث. هذا مرتبط أيضًا بفترةٍ، كان للنقد دور أساسي فيها، كحلقة مهمة ضمن حلقات الإنتاج السينمائي، فضلاً عن دور اليسار الذي كان "يُهيمن" على الأندية السينمائية. فالسينما، بالنسبة إليه، واجهة من واجهات الصراع السياسي". ويُشير الطريبق إلى أنّ هذه السياقات كلّها منحت خصوصيةً للمجلات السينمائية، ولمشروعية وجودها: "مقالاتها قريبة من السياق الذي كان يعرفه العالم الثالث حينها، كالرغبة في إنتاج فيلم سينمائي ذي بعد وطني، بحثًا عن خصوصية ثقافية محلية".
إلى ذلك، يقول الطريبق إنّ المجلات السينمائية اليوم، كـ"سينفيليا" و"مجلة نقاد السينما"، لا تتضمن نقدًا بمفهوم النقد كـ"حلقة من الإنتاج السينمائي، بل كهمّ ثقافي، مع نقاد مهتمين بالشأن السينمائي". فهذه مجلات "تهم حلقة صغيرة من المجتمع تهتمّ بالسينما، لأنها ليست إخبارية، بل أكاديمية أكثر منها ترويجية". كما أن "دور المخرج السينمائي يتجاوز، كباقي المجلات الأخرى، صنع الأفلام فقط، إذْ إنّ له دورًا اجتماعيًا وثقافيًا. وبالتالي، فإنّه يتحتّم على المخرج المساهمة في المجال النقدي، وأنْ يقدِّم رأيه في القضايا كلّها التي يشهدها المجتمع". ورأى أن صانعي الموجة الجديدة في فرنسا كان لهم، قبل تحقيقهم الأفلام، إسهام نقدي كبير، كمفهوم "سينما المؤلف" مثلاً. بفضلهم، اكتشفنا حيثيات السينما الأميركية الكلاسيكية، كما أعادوا الاعتبار إلى مخرجين في العالم. هذا اتجاه أعطى للسينما الفرنسية خصوصيتها وتنوّعها".

نور الدين محقق:
النقد المغربي استفاد من النقد الفرنسي
من جهته، يؤكّد الناقد نور الدين محقق أن مجلة "سينما 3" كانت "سينمائية رائدة في مجال الاهتمام بالسينما والكتابة عنها، وفق توجّه ثقافي عام، يجمع محبة السينما بالشغف بها، والانكباب على دراسة الأفلام السينمائية في بعديها الفني والفكري". فالسينما، بالنسبة إليها، "تُشكِّل مشعلاً ثقافيًا عامًا "يُنوّر" المجتمع". أما مجلة "دراسات سينمائية" (تصدر باللغتين العربية والفرنسية)، فكان تأثيرها الثقافي في مجال السينما "أقوى وأبعد"، كما أنّ الوتيرة المنتظمة لصدورها ساعدت على تحقيق ذلك، وعلى تقديم السينما المغربية بتعدّديتها وتنوّعها، وكتب فيها نقاد مغاربة معروفون في الوسط السينمائي المغربي الآن، كما أن غالبية الأفلام السينمائية، التي شكّلت منعطفًا حاسمًا في مسار السينما المغربية، وجدت لها مكانًا في صفحاتها، دراسةً ونقدًا وتحليلاً".
أما "المجلة المغربية للأبحاث السينمائية"، فتتميّز بـ"طابع أكاديمي جاد"، يظهر في الدراسات المنشورة فيها. هي "مجلة رصينة، تقدّم ملفات سينمائية غنية ومتنوّعة. لها خدمات قوية للنقد السينمائي المغربي في أعدادها كلّها".
وتوقّف محقق عند "وشمة"، المجلة الرصينة التي تنشر دراسات جادّة وعميقة عن السينما، وتخصّص ملفات تتناول أهمّ المواضيع فيها. و"سينفيليا"، التي نشر فيها كتابات سينمائية متعددة له، "جادة" لنشرها دراسات ومقالات سينمائية عامّة، ومغربية خاصة: "مجلة متنوّعة، تسعى إلى إيصال صوت السينما بشكل جميل إلى المتلقين بفئاتهم المختلفة"، مضيفًا أن هذه المجلات "ضرورية في الحياة الثقافية، فهي تفتح أبواب الاهتمام بالمجال السينمائي المغربي، وتساعد على ولوجه"، معتبرًا أن "النقد السينمائي المغربي استفاد كثيرًا من النقد السينمائي الفرنسي، وهذا مؤكّد، كما أنّ النقاد السينمائيين المغاربة جميعهم يتابعون معظم المجلات السينمائية الصادرة في فرنسا، ويستفيدون منها. لذا، فإن تأثير هذه الأخيرة موجود في كتاباتهم، وهذا جيّد ومطلوب".
وعن طبيعة النقد في هذه المجلات، يقول محقق: "النقد السينمائي المغربي غنيٌّ ومتنوّع. هناك الأكاديمي الرصين، والصحافي الرصين. نقد يعتمد، في مقارباته المجال السينمائي، على سعة اطلاع وتنوّع مصادر، ما يُشكِّل غناه وسعة آفاقه. فهذه المجلات وغيرها أتاحت فرصة للنقد السينمائي المغربي لتطوير آفاقه، وتنويع أدوات اشتغاله، ما جعله نقدًا يحظى بالاحترام والتقدير".

سليمان الحقيوي:
السينما عند الجمهور محصورة في المُشاهدة
من جهته، يؤكّد الناقد سليمان الحقيوي أنّ المجلات السينمائية ساهمت في نقل النقد السينمائي من مجال شفهي طاغ ومنتشر إلى فعل كتابيّ، وفي ظهور أصناف نقدية مختلفة. كما أنها واكبت الإنتاج السينمائي المغربي، معرّفة به، وحاولت تقريبه من القرّاء: "لكن، هناك ملاحظة يمكن تعميمها على التجارب كلّها: هذه مجلات لم تستطع الصمود، كبقية المجلات مختلفة المواضيع".
ولكي "لا نسقط في دورة الحياة المعتادة لكل مجلة في الماضي، التي تبدأ وتنتشر ثم تأفل، يجب الالتفاف حول كل مشروع سينمائي جاد، كالمجلات الموجودة حاليًا"، مطالبًا بضرورة دعم مشروع كهذا، والاعتناء به. أضاف الحقيوي أن "المقارنة بين مجلة مغربية أو عربية ومجلة فرنسية تحديدًا، كـ"دفاتر السينما" و"بوزيتيف"، غير منصفة، لأنها بين سياقين يختلف أحدهما عن الآخر تمامًا. المجلات العربية، رغم جديّة بعضها، غير قادرة على إحداث تغييرات ملحوظة، ربما تصل إلى المساهمة في بزوغ تيّار سينمائي كـ"الموجة الجديدة"، أو حتى في صوغ مشاريع خاصة، تبدأ بخطط للاستمرار والانتشار". ذلك أن "أزمة النقد هي إحدى مشكلات المجلات السينمائية المغربية، تستحضر أزمات أخرى تساهم في عدم بلورة خطاب نقدي جدي. منها أزمة القراءة. المجلة السينمائية تتعامل معها بجزئية تخصّها أكثر من غيرها، كون السينما بالنسبة إلى الجمهور محصورة في المُشاهدة فقط، وإنْ يكن هناك من يقرأ فهل سيقرأ نقدًا بمعايير معينة؟ ثم أزمة الدعم. لا أعتقد أن هناك مجلة تستطيع الصمود من دون دعم، الذي إنْ وُجد فهو يفرض خطوطًا حمراً وأسلاكاً شائكة لا يريد الداعمون تجاوزها".
ويرى الحقيوي أن المجلات السينمائية حاليا تقدّم أصنافًا نقدية مختلفة كالتحليل ونقد الأفلام والمتابعات والحوارات والتحقيقات: "هذه أبواب مهمّة يستطيع الناقد عبرها مخاطبة القارئ بمختلف اهتماماته. لكن، يظلّ وصولها إلى هذا القارئ وإقباله عليها ومساهمته في بقائها مسألة تعيق وجودها وتهدّده. هنا، نعود إلى حيث بدأنا: الخوف من ثنائية الظهور والزوال".

محمد الشوبي:
المجلات مفيدة لسيرورة الإنتاج السينمائي
إلى ذلك، يؤكد محمد الشوبي (ممثل مغربي منخرط في قضايا فنية وثقافية محلية مختلفة) على ضرورة المجلات السينمائية في الإنتاج النقدي. فالنقد "مفيد لسيرورة الإنتاج السينمائي على مستوى التفكير والإبداع". بالنسبة إليه كممثل، إنّ "النقد، الجمالي منه، يمنح نَفَسًا جديدًا للتفكير في الصورة والصناعة والإنجاز السينمائي عمومًا، وفي التطرّق إلى مواضيع ذات أهمية"، فـ"بتوفّرنا على ملكة النقد نتوفّر على ملكة الموضوعية في الطرح، ونقبض حينها على الإبداع السينمائي بحرفية ونكران ذات". يُضيف أن "على الممثل الاهتمام بالثقافة السينمائية في جوانبها كلّها، طالما أنه يشارك في الإبداع، ومنها النقد الجمالي للفيلم".
ويُلخِّص الشوبي أزمة المجلات السينمائية بما يلي: الدعم، وضعف القراءة، وعدم الاهتمام بالثقافة البصرية. بالنسبة إليه، هذه أسباب "تعيق التقدّم السينمائي، ما ينعكس سلبًا على النقد". ويرى أن المجلات السينمائية التي تُعتُبر "مؤسَّسة"، ليست إلّا "انطباعات، تكاد موادها لا تخلو من مطبات، بحسب السياق الأيديولوجي الذي كُتبت فيه، والذي يحتكم في طرائق اشتغاله إلى كلّ بعد سياسي، لا إلى البعدين الفني والجمالي". مع ذلك، "فهي كتابات مهمّة لباحث اليوم، كأرضية يمكنه أن يعيد إنتاجها على ضوء مقاربات ومناهج جديدة، ويجعل منها أرضية قوية لاجتراح مشاريع نقدية وسينمائية". بالإضافة إلى "عزلة المخرجين المغاربة عمّا يحدث في الثقافة السينمائية العربية، فمهمّة المخرج لا تقتصر على إنتاج الأفلام وصناعة الصُوَر، بل المشاركة في هذه المجلات السينمائية، باعتباره مثقّفًا عضويًا ذا رأسمال فني، يستطيع بفضله قول رأيه في قضايا ومسائل مختلفة".

المساهمون