فاردا في مصر: "المَرِحة" تذهب بعيداً في خياراتها السينمائية

فاردا في مصر: "المَرِحة" تذهب بعيداً في خياراتها السينمائية

18 نوفمبر 2019
أنياس فاردا: نسوية مرحة (فاضل سنّا/ فرانس برس)
+ الخط -
في الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، عُرض، خارج المسابقة الرسمية، الفيلم الوثائقي Varda By Agnes، للفرنسية أنياس فاردا، التي أنجزته وهي تبلغ 89 عاماً، متحدّثة فيه عن مسيرتها السينمائية الطويلة، التي بدأت منتصف خمسينيات القرن الـ20. لكن المخرجة الوحيدة المنتمية إلى "الموجة الفرنسية الجديدة"، بل أحد أهم رموزها، تغادر الحياة بعد شهر واحد على عرضه. مؤثّر وشاعري جداً أن ترحل العجوز، المُحِبّة للحياة، بعد إنجازها فيلماً تفتح فيه قلبها أكثر من أي وقت مضى.

الفيلم نفسه معروضٌ في "قسم خاص"، في الدورة الـ12 (6 ـ 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) لـ"بانوراما الفيلم الأوروبي" في القاهرة، عَرَض لها 5 أفلام تُعبِّر عن مراحل مختلفة من مسيرتها المتنوّعة.

في فيلمها الأخير هذا، تتحدّث فاردا عن التصوير الفوتوغرافي، الذي بدأت حياتها المهنيّة منه. لم تكن تعرف شيئاً عن السينما حينها، لكنّها انجذبت بشدّة إلى "الصوت والحركة"، كإضافة استثنائية على الصورة، فأنجزت فيلمها الأول La Pointe Courte، أو "النقطة القصيرة" (1955)، الذي يعتبره مؤرّخون عديدون بداية "الموجة الفرنسية"، قبل 5 أعوام على جان ـ لوك غودار وفرنسوا تروفو وآلان رينيه وكلود شابرول، رموز هذه الحركة السينمائية.

فشل الفيلم الأول جعلها تتجه إلى أفلامٍ تسجيلية قصيرة. انتظرت 7 أعوام قبل إخراج فيلمها الروائي الثاني "كليو من 5 إلى 7" عام 1962، وهو أقدم أفلامها المعروضة في "البانوراما". عمل ثوري كأغلب إنتاجات الموجة الفرنسية، لكون أحداثه تجري في زمنٍ حقيقي للأحداث، ولمساحة التصوير الخارجي اللافتة للانتباه، ولاستخدامها أساليب جديدة، كالتعليق الصوتي، للتعبير عن أفكار الشخصيات في بعض المشاهد، ولكتابتها فصول الفيلم على الشاشة مصحوبة بالساعة. وطبعاً، للحسّ التوثيقي العالي، الذي يدمج الدراميّ بالتسجيلي، وهذا النمط سيستمر في أفلامها حتى رحيلها.

قبل وقت طويل على الحَراك النِّسوي الحالي في العالم، كانت فاردا، كما تقول في فيلمها الأخير، تعتبر نفسها "نسوية مرحة"، في تعبير دقيق عمّا هي عليه. تهتمّ بقضايا المرأة ومشاعرها، وتقترب منها وتناقشها، في أطر مجتمعية وسياسية وعاطفية. لكنها، في الوقت نفسه، تحتفظ بحسٍّ مرح وغير غاضب في تناولها هذا كلّه.

Sans Toit Ni Loi، ثالث أفلامها المعروضة في "البانوراما"، حائز جائزة "الأسد الذهبي" وجائزة "الاتّحاد الدولي للنقّاد"، في الدورة الـ42 (26 أغسطس/ آب ـ 6 سبتمبر/ أيلول 1985) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي": فيلم ثوريّ آخر لها، يتمحور حول امرأة خارجة تماماً عن المجتمع، فتهيم في البرية بحثاً عن "حريتها"، بالمعنى الواسع والمجرّد للكلمة. لا تهتم فاردا بخلق سياق لحياتها، قبل قرار الترحال، بقدر ما تُورّط المشاهد في رحلتها القاسية، التي تودي بحياتها (كما في أول مشهد، ثم تُسترجَع الأحداث بأسلوب الـ"فلاش باك"). كالعادة، هناك توثيق وارتجال وأدوار كثيرة، تؤدّيها شخصيات حقيقية في إطار روائيّ.

رابع الأفلام "جاكو القادم من نانت" (1991): رسالة حبّ سينمائية مفتوحة ونادرة من فاردا إلى شريك حياتها المخرج الفرنسي جاك ديمي، بصنعها فيلماً عن حياته في مراحلها المختلفة، مستلهمة قصّته من "ذكريات" حبيبها. تصنع فاردا فيلمها أثناء مرض ديمي، كوسيلة لمواجهة الموت بالسينما والحبّ، لكن الفيلم يُعرض بعد أشهر على وفاته.

في "فاردا تتحدّث عن أنياس"، تحكي المخرجة الفرنسية (1928 ـ 2019) عن ترقّب الناس وخوفهم من قدوم القرن الـ21، وعن كيف اعتقد الجميع أن العالم سينتهي مع حلول عام 2000، وعن أنّها حين استيقظت في الأول من يناير/ كانون الثاني في قرنٍ جديد، وهي لم تزل حيّة ولم ينتهِ شيء، قرّرت أنّها لا بدّ أنّ تكتشف أموراً جديدة عن العالم، وكانت تبلغ حينها 72 عاماً، ويمكن أنْ تبدأ لا أنْ تنتهي.

تلك المرحلة هي الأكثر إلهاماً وتأثيراً في حياتها: قرّرت تعلّم كلّ شيء عن "الكاميرا الديجتال". في Les Glaneurs Et La Glaneuse، الذي أنجزته عام 2000، تذهب في رحلة مع هذا الاكتشاف الجديد (الكاميرا الصغيرة) بين المزارعين وحاصدي المحاصيل بأيديهم في الريف الفرنسي، بالتوازي مع تناولها علاقتها بالعالم ووسائل التصوير الجديدة، وعدم رغبتها في العيش كسيدة عجوز، بل بتفاعل مستمر مع ما حولها، "تُمسك حبات البطاطس بيدٍ، والكاميرا بيدٍ أخرى"، كما تعلّق بصوتها في الفيلم.

أتاحت "الكاميرا الديجتال" لفاردا مساحة أكبر في صنع أفلام وثائقية، كما أحبت طول حياتها، وصارت أكثر ذاتية وحضوراً في أعمالها. المبهر أنّها لم تتوقف فقط عند هذا الحدّ، فكما تسرد في "فاردا تتحدّث عن أنياس"، تبدأ أيضاً اكتشاف "الفن المعاصر"، وتصميم عروض ومعارض بتصوّرات مختلفة عن السينما والصورة والصوت، بحماسة لا تنتهي، ورغبة لا تنطفئ في الحياة، ومحبّة مطلقة للفن والبَشر.

قبل مغادرتها العالم عن 89 عاماً، كانت لا تزال مُتّقدة وحيّة، تبثّ روحها في صنع إرثٍ ضخم من الأفلام، أنهته بعملها المهم، الذي تحدّثت فيه عن نفسها وتاريخها.

المساهمون