عن مالكولم إكس واغتياله: توثيقٌ يصنعه المونتاج ويرويه المؤرّخ

عن مالكولم إكس واغتياله: توثيقٌ يصنعه المونتاج ويرويه المؤرّخ

17 يونيو 2020
مالكولم إكس يخطب وإلايجا محمد يستمع إليه (فرانك شرشل/Getty)
+ الخط -
للسلسلة الوثائقية "مَن قتل مالكولم إكس؟" (6 حلقات)، التي تعرضها المنصّة الأميركية "نتفليكس" منذ 7 فبراير/ شباط 2020، أهمية كبيرة في مضمونها الموثَّق والمرتكز على تحليل المعطيات. "الاتّهام" يُشير بالأسماء إلى منفّذين (على الأقلّ)، انطلاقاً من هذا التحليل نفسه، وللتحليل أهمية كبيرة أيضاً. الكمّ الهائل من المستندات والوثائق والصُور الفوتوغرافية والأشرطة المصوّرة والتسجيلات، بالإضافة إلى قراءات أفرادٍ، متخصّصين بالتاريخ والصحافة والقانون، أو شهود ومعارف ومتابعين ومنتمين إلى الفئات المتنازعة حينها، يمنح السلسلة مصداقية تدفع صانعيها إلى تحليلٍ كهذا.

أهمية السلسلة كامنةٌ أيضاً في جانبٍ آخر: الاشتغال الوثائقي. المنهج المعتَمَد في تحليل المعطيات. المسار الدرامي المصنوع خصيصاً بالسلسلة، والهادف إلى جمع الخيوط كلّها في شخصٍ واحدٍ، يُصبح محورها المؤرّخ والناشط الأميركي عبد الرحمن محمد، المهووس بمالكولم إكس، والساعي بجهدٍ كبيرٍ إلى كشف الحقيقة في 30 عاماً. فالسلسلة، التي يُخرجها الثنائي راشيل دْردزِن وفِل برتلْسن (بالإضافة إلى الإخراج، الأولى منتجة منفّذة والثاني منتج)، تضع محمد في واجهة المشهد غالباً، وتجعله "المحقِّق" الأول، الذي يتجوّل بين مراكز ومساجد وصُور ومستندات، ويزور أناساً، بعضهم شاهدٌ ومتابع وعارف.

في 21 فبراير/ شباط 1965، يُنفَّذ قرار اغتيال مالكولم إكس، الذي يرفض كلّياً ذكر اسم عائلته لأنّه (الاسم) متوارثٌ من أجداده المفروض عليهم اسم العائلة. الحاصل قبل ذاك اليوم وبعده يُشكّل مساحة كبيرة من التنقيب الدقيق في المتوفّر، وهو كثير، لتأكيد استنتاجات، أو لبلوغ المطلوب. صدمات كثيرة يواجهها عبد الرحمن محمد، وبعض المؤرّخين والمتابعين للمسألة، إزاء "وضوحٍ" يتجاوزه محقّقو الـ"المكتب الفيدرالي للتحقيقات (إف. بي. آي.)" وشرطة نيويورك. بريئان، هما توماس 15 إكس وتوماس 3 إكس باتلر، يُسجن الأول 22 عاماً ويتوفّى عام 2009، والثاني 20 عاماً واسمه محمد أ. عزيز، والمذنب الوحيد (تالمادج هاير) المسجون معهما يُصرّ على براءتهما ويكشف، مع رحيل إلايجا محمد (1897 ـ 1975)، قائد "أمّة الإسلام"، أسماء المتورّطين الأربعة (ليون ديفيس وبنجامن توماس ووليام إكس وشخص يُدعى ويلبر أو كينيلي، "يتّضح" لاحقاً أنّه "القاتل" ويليام برادلي) في جريمة الاغتيال، من دون أنْ يُمسّ واحدٌ منهم إلى الآن.

يُظهر عبد الرحمن محمد أنّ "القتلة" جميعهم قادمون من "مسجد محمد رقم 25" التابع لـ"أمّة الإسلام" في "نيوآرك" (نيوجيرسي)، بإشراف الداعية جيمس شاباز، الناقم على مالكولم إكس، كنقمة أحد أبناء إلايجا محمد عليه: "(المسجد) معروفٌ بكونه متطرّفاً ومتشدّداً، ومتعصّباً حتّى، وهم يفخرون بذلك"، يقول محمد، مضيفاً: "هناك شائعات عن ذلك المبنى نفسه (...) وعن أنّه المكان الذي جاء منه القتلة الـ5". مُرافق مالكولم إكس، المدعو جين روبرتس، يُسعفه لحظة الاغتيال، لكنّه "ينكشف" لاحقاً كعميل لـ"أف بي آي". برادلي يبقى حيّاً يُرزق سنين مديدة، ويتحوّل إلى مُصلح اجتماعي، والمحيطون به، وبينهم سياسيون أميركيون، يعرفون "شائعات" حول تورّطه في الاغتيال. لكنّ رحيل المرء يُذكّر الناس بأفعاله الأخيرة، كما يُقال لعبد الرحمن محمد.

التفاصيل كثيرة. للمونتاج (المولِّف الرئيسي: براين فونك. المولّف النهائي: جف غروتزماكر) دور أساسي في صناعة السلسلة. ترتيب اللقطات القديمة في سياق كلامٍ أو تحليل أو تعليق، مهمّة صعبة للغاية، لدقّة التوازنات السينمائية المطلوبة، لكنّها منفّذة بجمالية توثيقية. خطابات مالكولم إكس وتصريحاته كثيرة ومتنوّعة، يغلب عليها الغضب والحدّة، لأنّها واقعية وصادقة. الاعتماد على الوثائق، بأشكالها كلّها، يُساهم في سرد حكاية إلايجا محمد ومالكولم إكس والمسار المؤدّي إلى الاغتيال، بعد مرحلتي التوافق العميق (ثنائية أب ـ ابن) والنزاع الكبير. الأول "زعيم ديني"، والثاني "زعيم سياسي"، وبحسب الفيلم، فإنّ "المكتب الفيدرالي للتحقيقات" لديه "مخاوف من أن تزداد التوجّهات السياسية لإلايجا محمد"، فلـ"أمّة الإسلام" بُنية شبه عسكرية (ثمرة الإسلام) "يُمكن تحويلها إلى جنود للقتال".

لقطات عدّة تتكرّر دائماً، بهدف تبيان تفاصيل وهوامش. شريط مُسجّل لحظة الاغتيال يُعاد بثّه مراراً، بسرعات مختلفة، بحسب تطوّر تحقيقات عبد الرحمن محمد، والمعطيات التي يحصل عليها من مستندات ووثائق ولقاءات. الشريط المذكور يكشف "هروب" برادلي من مكان الجريمة أثناء إلقاء القبض على هاير. هذا يتطلّب تدقيقاً في المعلومات وتحليلها. هذا جزء من اشتغالٍ وثائقيّ يوحي كأنّ العمل يحصل لحظة وقوعه. شريط آخر يُظهر برادلي، بعد أعوام عدّة، رفقة مُرشّح لمنصب سياسي، سـ"يُفاجأ" لاحقاً بـ"حقيقة" برادلي. إعادة بثّ مقتطفات محدّدة من خطابات مالكولم إكس وتصريحاته تأكيدٌ على فواصل بصرية ضرورية في سرد الحكاية، رغم أنّها (الإعادة) تُثير نوعاً من نفور، لوهلة أولى.

تلاقي مصالح يؤدّي إلى فعلٍ واحد. كثيرون غاضبون من مالكولم إكس. شابّ متمرّد ورافض وراغب في تحقيق إيجابيات لناسه، لكنه يصطدم بسلطات ضاغطة وعلاقات مشبوهة وأرباح مالية وصفقات مختلفة، إنْ يطّلع عليها أحدهم، فمصيره التصفية. اكتشاف حقائق مثبتة تولّد في عبد الرحمن محمد أسى كبيرا. موت وليام إكس برادلي، ومراسم الدفن المُقامة له، التي تليق بقائد عظيم، تزيد الأسى، لأنّ المتّهم ناجٍ من العقاب.

سلسلة "من قتل مالكولم إكس؟" تعرض في ظرفٍ أميركي استثنائي. صدفة أم مسار تاريخي؟ ربما الاثنان معاً. فوقائع العيش في "أرض الأحلام" تعكس تردّياً في أمور الاجتماع والاقتصاد والثقافة، والسلسلة الوثائقية تقول ـ بشكلٍ أو بآخر ـ إنّ شيئاً غير متبدّل نهائياً، وإنْ تبدّلت وجوه وأسماء وقيادات وأوضاع نحو الأسوأ.

المساهمون