ممالك النار: تشويه التاريخ العثماني بدوافع سياسيَّة

ممالك النار: تشويه التاريخ العثماني بدوافع سياسيَّة

01 مارس 2020
الدراما التركيّة هي الأقدر تأثيراً (فيسبوك)
+ الخط -
لا يزال مسلسل "ممالك النار" يتصدر مشهد النقد الدرامي والسِّباق لكتابة مدونات تهاجم وأخرى تستبسل دفاعاً عن العمل والمؤسسات التي رعت هذا الإنتاج التلفزيوني. والواضح لمتتبع ما يُكتب يوماً بعد يوم عن "ممالك النار" أن المقصود ليس طاقم العمل من ممثلين وكومبارس، على اختلاف ولاءاتهم وجنسياتهم، وليس التنفيذ الفني أو جودة العمل، بقدر ما كان المقصود هو النص والإيديولوجيا التي أراد مُموّلو العمل تمريرها للمشاهد العربي. وإذ كان مسلسل "ممالك النار" بكلفته التي بلغت نحو 40 مليون دولار صُرفت على 14 حلقة، أن يتربع على عرش أضخم إنتاج درامي لعام 2019، برعاية إماراتية سعودية مصرية مشتركة، إلا أنه أثار جدلاً واسعاً في الشارع العربي منذ اللحظة الأولى لإطلاق الفيديو الترويجي الخاص به. ولا أشير هنا إلى شارع عامة المتفرجين، بل إلى شارع السياسة العربية الذي هاج وماج فيه الحديث عن رسائل احتوتها كل تفصيلة من تفصيلات النص، وكل نظرة عمل المخرج البريطاني بيتر ويبر على العناية بها ورسمها على وجوه الممثلين. ربما كان بناءُ العمل المسيّس الإسفين الذي دُقّ في نعشه، خاصةً بعدما لوحظ حجم الأخطاء التاريخية التي شابت النص الذي كتبه المصري محمد عبد الملك. وإذ يرى عبد الملك أن ما كتبه يحمل سردية جديدة مفادها "إعادة النظر في تاريخ العثمانيين المليء بالدماء"، والرد على " قيامة أرطغرل" المدعوم تركياً، إلا أن هذا لا يمكن أخذه كمبرر لتزوير حقبة تاريخية بأكملها، مختصراً التاريخ بمصدرين فقط، مع لمسات من خياله الدرامي الذي بدا خصباً للغاية.

لا شكّ أن الدراما التلفزيونية تلعب دوراً مهماً في تكوين صورة عن الدولة ليتم تصديرها إلى الشعوب الأخرى. ومنذ وصول "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة في تركيا عام 2002 واعتماد الدولة سياسة "صفر مشاكل"، كان لا بد من الانتباه إلى تأسيس قوة ناعمة تحل محل الصلبة للتأثير في البلاد دون أي عدوان. ولهذا فقد دخلت الدراما معترك السياسة، إذ إنَّها، بحسب وصف جوزيف ناي، "من أهم أعمدة القوة الناعمة"، التي تسعى الدول لاستخدامها عبر توظيف المنتج الثقافي من أجل تعزيز صورتها وحضور اسمها خارجياً. وبتصدير مسلسلات مثل "قيامة أرطغرل" و"قيامة عثمان"، غدت تركيا قادرة على النفاذ إلى شاشات ما لا يقل عن 200 مليون مشاهد في 85 دولة حول العالم. وبالتالي أصبحت الدراما التركية الأقدر على التأثير في ذهن الشاب العربي، وتغيير التفكير النمطي للشاب العربي الذي كان مرافقاً له إثر صور السيجار والخمر والجنس التي جلبتها الدراما المصرية لمدة لا بأس بها خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

وباستغلال تاريخ الدولة العثمانية ومؤسسيها، استطاعت تركيا بناء سردية "البطل الإسلامي المحافظ" من خلال تقديم دراما تلفزيونية تحمل مزيج الدين والقومية والعاطفة في آنٍ معاً. وإن كان فيها من المؤثرات ما يلزم للتشويق وشدّ المتابعين، إلا أنها لم تجنح لتزوير التاريخ للوصول إلى قلوب المشاهدين. ولا بد من القول إن ما تقوم به تركيا من إنتاج درامي تاريخي لا يخلو من محاولة لإنزال الرئيس التركي منزلة السلطان العثماني المؤسس من خلال تسليط الضوء على صفات السلطان وربطها بقدرة رجب طيب أردوغان على القيام بمهام المدافع عن الدين الإسلامي والمسلمين أينما كانوا، خاصة بعدما أسس لرواية "تركيا قائدة العالم الإسلامي" في محافل ومؤتمراتٍ عدة. فصورة "أرطغرل" التي غدت حاضرة في أذهان كل المتابعين كرمز للنصر على المؤامرة قديماً، هي في خانةٍ واحدة اليوم مع صورة أردوغان المنتصر على الانقلاب حديثاً.

وتنبّهت غرف السياسة في السعودية والإمارات ومصر إلى الدراما كأداة مواجهة، ولم يدّخر مسؤولوها جهداً في التجهيز لعمل استغرق أكثر من سنة ونصف، وبتمويلٍ ضخم لتفنيد ما جاء به الأتراك من رواية "بطولات العثمانيين الأسلاف". فجاء "ممالك النار" بتاريخيَّته الضحلة وخياله الواسع/ ليكون حائط صدّ أمام صورة العثمانيين البطولية التي يصدّرها الإعلام التركي، ويقدم قادة المماليك في مصر على أنهم سادة الزمان وأنهم ضحية الشر العثماني.

استحضر "ممالك النار" رمزين لا يغيبان عن أي صفحة من صفحات كتب تاريخ الدولة العثمانية والمماليك هما: سليم الأول وطومان باي. وإذ يعيدنا المسلسل إلى حياة كل منهما، يتمُّ تقديم سليم الأول على أنه الشرير المترصّد لمن حوله، وطومان باي بصورته المسالمة المحببة التي تفرض، عاطفياً، محبتها لدى المتابعين. ولتعميق كره السلاطين العثمانيين، فقد وجب على الكاتب أن يقدم صوراً ومشاهد جعلت من سليم الأول رمزاً للدموية والقتل الذي يطاول حتى إخوته ووالده "فالسلطان أهم من الإنسان، والعرش لا يقبل القسمة على اثنين". وعلى الجانب المصري، يظهر طومان باي الشجاع الذي يقود معارك لحماية المماليك في صورة البطل الذي لا تنفع في اقتلاعه عن عرشه إلا خيانة حاشيته. وإن كانت كتب التاريخ تورد أن سليم الأول أخذ السلطنة تنازلاً من أبيه، إلا أن "ممالك النار" أراده أن يقتل والده في مشهد مواجهة كامل، على نقيض طومان باي الذي بدت عليه المظلومية لينتهي به المطاف مشنوقاً عند "باب زويلة" في مشهد قرآنيّ وداعي يوحي بأن بطلاً مظلوماً لن تطلع الشمس على مثله قد قتل على يد العثمانيين.
ولا ينفع سرد المشاهد، إذ إنها مفتوحة أمام الجماهير في تفسير تأثير المسلسل بقدر ما ينفع بيان ما تلبي حلقاته من حاجات لدى المتابعين. وإن كان تأثير مسلسلات مثل "ممالك النار " و"أرطغرل" كبيراً في أذهان المشاهدين، إلا أن قاسم التأثير المشترك بين هذه الأعمال هو العاطفة واللعب على وتر المشاعر لجذب الانتباه، فالوقائع التاريخية والخوض في أعماق التاريخ لم تعد تشكل لمتفرّج هذا العصر إلا صفحات في كتب تراثية. ولا بد من القول إن المُشاهد الذي كان قد تَسمّر أمام الشاشة لمتابعة "أرطغرل" هو ذاته الذي تسمر لمتابعة "ممالك النار"، لكن يبقى عامل الجذب العاطفي أقوى من عامل السرد التاريخي في تحقيق هدف هذين العملين. فمن مشاهد الحب والإثارة، إلى مشاهد القتال والاستبسال تنجح هذه الأعمال في رسم معالم البطل في ذهن الجماهير. وإن كان التحيز في السرد التاريخي واضحاً نحو العثمانيين في "أرطغرل" وضدهم في "ممالك النار"، فإن المبالغة في المشهد الدرامي والعمل على شد المتابعين بمشاهد ومؤثرات فنية تدغدغ مشاعرهم كان العامل المشترك بين هذه الأعمال. وبالمحصلة، فقد نجحت هذه الأعمال، كما سينجح "قيامة عثمان"، المموّل تركياً أيضاً، في دبّ حالة من الولع في قلوب المشاهدين لمتابعة تزيد من رصيد هذه المسلسلات وتحقق تصنيفات ونسب مشاهدات عالية في زمن وجيز.

المساهمون