مايا دا - رين: "حمى" جسد أو "حمى" بلد؟

مايا دا - رين: "حمى" جسد أو "حمى" بلد؟

16 سبتمبر 2019
"الحمى": تبدّلات بيئة واجتماع (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
العتمة الشديدة، المصحوبة بظلالٍ خضراء داكنة، مع أصوات حادة للطيور، الآتية من الغابة القريبة إلى داخل الأكواخ فاقعة الألوان، المتناثرة بالقرب من طرق إسفلتية، تستدعي ذهن المتفرّج للولوج إلى عوالم أميركا اللاتينية، ومدنها اللصيقة بغاباتها المطيّرة، التي تُولِّد في تنافرها إحساسًا بانفصال منطقتين إحداهما عن الأخرى: الغابة والمدينة. 

ذلك ما اعتنت بترتيبه المَشَاهد الأولى من "الحمى" (2019) للبرازيلية مايا دا ـ رين، التي يظهر فيها جوستينو في طريقه إلى بيته، أو تلك التي تصوِّر وجوده بين جدرانه الخشبية. رحلته اليومية من الميناء، الذي يعمل فيه حارسًا ورقيبًا أمنيًا، إلى بيته، عبر الباص، ثم السير صعودًا إليه بمحاذاة الغابة، وتكرار هذا، تُرسّخ كلّها شعورًا بالملل والرتابة. هكذا هي حياته، منذ أن جاء مهاجرًا إلى مدينة ماناوس في منطقة ديسانا، شمال غرب البرازيل، تاركًا قبيلته الهندية الأصلية، بحثًا عن فرصة عمل، بعدما تقلّصت مصادر الغابات.

لا تثقل مايا دا ـ رين نصّها الروائي الطويل هذا في بحثِ أسباب هجرة سكّان قبائل الأمازون إلى المدن، ولا تعاين فيه سلوك قبائل "ديسانا" وعاداتها، المهدَّدة بالزوال من منظور أثنوغرافي أو أنثروبولوجي. فهي أرادت تضمين كلّ ذلك، بدرجات خفيفة، في عملٍ روائي، يتخلّص من ثقل المادة الوثائقية، وإنْ لم يتحرّر منها كلّيًا، بحكم اشتغالاتها السابقة، وشبه تخصّصها في توثيق حياة قبائل غابات الأمازون، التي نقلتها عبر "مارغيم" (2007)، القارب الكبير الذي كان يقطع نهر الأمازون يوميًا، ويقلّ على متنه الناس والحيوانات والبضائع، فبات شاهدًا على تحوّلات بشر وأمكنة؛ وفي "تيراز" (2009)، المتأمِّل في التغيّرات الدراماتيكية التي تشهدها بلدتا "تاباتنغا" و"ليتشا"، على شطري حدود البرازيل وكولومبيا.


"الحمى" فيلمُ ليلي. العتمة تغلّفه، وقلّما يخترقه ضوء. هي كناية عن كثافة ظلال أشجار الغابة التي جاء منها جوستينو، وإلى جوارها يستعيد توازنه. تشتغل مايا دا ـ رين طيلة الوقت على إبراز العناصر المتنافرة، لتجسّد عبرها حالة اللاتوازن النفسيّ التي يعيشها رجلٌ، جاء من أعماق الغابة البِكر إلى مدن صناعية. في الميناء يشعر الهندي الأمازوني بالتقزّم، بينما يحسّ في مشيته بمحاذاة الغابة القريبة من بيته بالتوازن. يتعمّد التصوير (باربارا ألفاريز) في إحداث ذلك الفرق، عبر لقطات يبدو فيها الرجل على المستوى نفسه من ارتفاع سياج الغابة، وفي لقطات أخرى مُضاءة يتلاشى طوله أمام ضخامة الحاويات، وعملقة سفن النقل.

لا غرابة في فيلمٍ عن عالم أميركي لاتيني دخول العجائبيّ إلى متنه السرديّ، ولا أن تتداخل حيوات سكّان الغابة بعضها ببعض. هذا مترسّخٌ في ثقافات الشعوب الأصلية، وفي ممارساتها. طيلة الوقت، ومع سيره بمحاذاة الغابة، كان يسمع صوت حيوان غامض، كأنّه يلاحقه ويتبع خطاه البطيئة المتعبة، بعد يوم عمل شاق، في مكان هائل الكبر، يُشعره باغترابه وانفصاله عنه، ويؤدّي فيه وظيفته بصمتٍ مطبق، ثم يذهب ليعيش عالمه الآخر مع ابنته فانيسا (روسا بيكوتو)، وأحيانًا يقضي أوقاتًا حلوة مع حفيده، عندما يزوره ابنه.

في بيته، مع ابنته الممرّضة، يعيش متطامنًا مع ذاته. وجودها يُشعّ بهجة، ويوفّر استقرارًا هو بأمسّ الحاجة إليه، بعد موت زوجته. إلاّ أنّ حمى غريبة بدأت تسري في جسده، أربكت سلاسة عيشه البسيط، ولم تنفع زياراته الأطباء في معرفة أسبابها. هناك غموض يحيط بها، ولعلّ أسبابها غير جسدية. في تسريب مُدهش في أسلوب إيصاله، يُحال فيه ظهور الحمى إلى رغبة الابنة في ترك المدينة، والذهاب إلى العاصمة لإكمال دراستها الطب. استئناسها برأيه وقبوله المتحفّظ على مشروعها لا يشيان بغليان داخله، فترتفع درجة حرارة جسده، ويغدو أثرها كائنًا عاجزًا مستسلمًا لقدره.

القدرية هو العنوان الداخلي الأبرز في نص مايا دا ـ رين. الإيمان بها نابع من ثقافة أمازونية ـ ومن ثقافات برية وطوطمية أخرى ـ تقبل الموجودات وتتعامل معها باعتبارها مسلّمات طبيعية لا سلطة للإنسان عليها. قناعات فطرية عزّزتها طبيعة العيش في بيئات مغلقة، والفواصل بين الحياة والموت فيها غير مرئية. التغيّرات الدائمة، التي تضجّ بها حياة الغابة، ترسِّخها. هذا السلوك المُستسلم للقدر، وفيه كمّ كبير من احترام الطبيعة وقوانينها، يبدو خنوعًا في المدن الصناعية، وغير مفهوم للّذين لا مكان للروحانية عندهم، ولا يعرفون غير العملياتية قانونًا.
صمته في العمل مؤذٍ، واستسلامه لضغوط مرؤوسيه نابع من ثقافة سلمية لا تصادمية. تجاهله عنصرية زميله "الأبيض" الجديد نابع من أصالة مترفّعة عن المهاترات. جُبِل على الانسجام مع المحيط، لا التنافر معه. مصدر توازنه المختلّ ابنته، وهذا ما يشغل باله ويسبّب في اكتواء جسده بحرارة مؤلمة. ما يقلقه أيضًا ارتفاع صوت الحيوان الغامض، واختلاطه مع أصوات طيور الغابة وباقي كائناتها. هناك دعوات سرية عبرها للدخول إلى مكان دَاوَم على المرور به من دون أن يكلّف نفسه عناء اكتشاف ما في داخله.

فهل هي دعوة له إلى ترك ذلك الخارج المقلق، المسبّب له بالحمى؛ أم أنها دعوة عدائية تعلّمتها حيوانات الغابة من المدينة المحيطة بها؟

مع اقتراب موعد مغادرتها، يشعر الأب بهوانٍ أكبر، وبتداخل أصوات عجيبة مفزعة يسمعها لوحده (تصميم صوتي رائع لفليبي شولتز موسيل)، تثير خوفًا في داخله، لم تخفّفه دعوات أخيه له إلى زيارة قريته وتمضية أيام فيها. يُدخل سيناريو "الحمى" (ميغيل سيبرا لوبيز مع دا ـ رين) شخصيات جديدة على المشهد، ليسرِّب عبر سلوكها رؤيتيهما النقدية لما تشهده البرازيل اليوم من تمزّق متعمّد لأصالتها، وتقاطع سلوكي حاد مع جذورها. الترميز لمعالجة مرتجاة يأتي عبر قتل جوستينو للحيوان المرعب، المُطارد له، والمتّخذ شكل مسخ آدميّ. وبعودته إلى الغابة، التي جاء منها عبر رحلة بقارب خشبي، يقطع أنهرًا طافية وسط الأشجار الكثيفة، يستحيل لغير العارفين بتلك الجغرافية "الوحشية" ركوبه، والوصول به إلى الوجهة المنشودة.



لا ينتهي "الحمى" ـ الحاصل على جائزة تمثيل للهاوي ريجيس ميروبو وجائزة "الاتحاد الدولي للنقّاد (فيبريشي)" في الدورة الـ72 (7 ـ 17 أغسطس/آب 2019) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي" ـ بالحدث "الساذج" السطحي، بل في تتبّعه مشهدًا ينبئ باستحالة تحقيق نهاية "سعيدة" ومتوقّعة لمتغيّرات كونية، تفرضها قوانين اقتصادية وسياسية، هي أقوى بكثير من قدرة السكان الهنود الأصليين على مقاومتها.

تخيّليًا، يُقدِّم هذا الفيلم المُبهر المأمولَ من نهاية، لكن بتثبيته إصرار الابنة على إكمال دراستها، يمضي سوية مع مسار جيل جديد ذاب في كيمياء عملية فوق قومية (غلوبال) لا مُقاوِم لها.

المساهمون