"أنا صياد" لـ فهد بلان: أغنية البعبع والعصفور

"أنا صياد" لـ فهد بلان: أغنية البعبع والعصفور

22 مارس 2020
يُناجي بلّان الحسناء التي أصابت سيوف رموشها فؤاده (أرشيف)
+ الخط -
أغنية فهد بلّان "أنا صياد"، كلمات ميشال طعمة وألحان عفيف رضوان، تُحفة أصيلة من تُحف الفلكلور الحديث. ظاهرها المعهود، يتجلّى في البساطة والنقاء، اللذين لطالما اشتُهر صاحبها في تقديمهما للجمهور من على المسرح، وعبر الميكروفون. غير أن لتلك الأغنية، خاصةً، خملةً، وهذا مما يزيدها فرادةً وجاذبية، تكشف عن نسْج خلّاق، عميق ومُتعدد، على صعيد كلٍّ من شكل وطريقة التلحين، يجعله مُتآلفاً مع سردية النص ومعنى الكلام، مُتلائماً مع شخصية وأسلوب بلان في الغناء والأداء.

السمة العامة المميزة للأغنية، من الناحية التعبيرية، تكمن أساساً في تمثيل حال التناقض التي تتنازع نفس الصياد، ما بين مظاهر البأس والقوة إزاء الطرائد، وبين مكامن الهشاشة والضعف حيال المشاعر. تناقضٌ يُمثّل، موسيقياً، بالانتقالات المقامية الموائِمة دراميّاً. وأدائياً، من خلال شخصية فهد بلان، حيث يؤدي بصدق، مُنسجماً مع ذاته، دوراً ثنائياً: عنفوان وحميّة رجولية، يُجسّدها بجهارة صوته وعرض منكبيه. وفي المُقابل، رقّة أنثوية وبراءة طفولية، يعكسها سحر ضحكته وبريق عينيه.

مُقدمة مُقتضبة، مُثيرة ودراماتيكية، من عدّة ضربات بأقواس الكمنجاتيّة، ستُعاد لاحقاً مشكّلةً القنطرة الواصلة بين المقاطع، تُعلن عن دخول المُغنّي بموّاله المُرتجل على مقام "الراست" المهيب بنكهة "العجم": "أنا صيّاد شارد في البراري، أصيد الطير وأسود الضواري، وقليبي طير مقصوص الجوانح، تصيده رموش عينين الحواري".

تُشكّل كلمات الموّال ولحنه مادة المذهب، أي ذاك المقطع الثابت الذي يُعاود التكرار على مسار الأغنية التي ستنطلق على نبض إيقاع "الملفوف" الثنائي. بهذا يُعرض المذهب، إذاً، ثلاث مرّات متتالية، مُرتَجلاً في البداية كموال، ثم مذهباً بصوت المُطرب مُنفرداً، فمُعاداً جماعةً من قبل جوقة الكورس، أو "السنّيدة".

جُملة أنا صيّاد مُلحّنة على شكل سلسلة نغمات صاعدة تُشكّل فاصلةً رباعية، وهي مسافةٌ دوْزنت بها أوتار الآلات الموسيقية القديمة في الشرق والغرب، ولونها الصوتي يوحي بأجواء الأرياف والمراعي، والسهوب الخضراء الواسعة، تصوّر سرديّاً وعلى نحو بسيط وطريف، مشهدَ الصياد هائماً في البراري وبين الأشجار، وفي ذلك توظيفٌ دراميّ فريدٌ من قبل المُلحّن، قلّ نظيره في ميدان الأغنية العربية، ما خلا إنتاجات الأخوين رحباني.

في المقطع الأول عقب المذهب، وعلى مقامه، الراست، وإن باندفاعة مباغتة تُثير الرهبة، وتزيد من حيويّة تدبّ أصلاً في كلّ مفاصل الأغنية، يصيح بلّان: "أصطاد أسود، ما أفزع من هجمتها ومن سطوتها، وعنيكِ السود؛ بلفتتها وتطليعتها". بيد أن اللحن عند "تطليعتها" يتناهى مفتوحاً، كما لو أنه أمام انتقال مقامي مُحتمل. وهذا ما سيحدث بالفعل؛ إذ ينعطف عند الإعادة، إلى مقام الصبا، كأن سودَ العيون أصابت بنظراتها قلب الصياد فكسرته، وها هو الآن يشكو حسرته: "وأقول الحق، قلبي ما دق ولا حنّ ورقّ، لا لا لا" ليستنهض مُجدداً، راجعاً إلى عنفوان الراست، بإكماله: "إلا لسيوف عينيكِ يا سمرية"، مُهيّئاً بذلك العودة إلى المذهب؛ "أنا صياد" يؤازره كورس السنّيدة.

من شأن أي أغنيّة شعبية عادية أن تكتفي بتكرار المُتتالية السابقة إلى النهاية؛ مذهب يعقبه مقطعٌ، ويُسمى أحياناً "كوبليه"، فمذهب ومقطع ثم مذهب حتى الختام، لتُتوالى الانتقالات المقامية مُتقابلة ومُتشابهة في ما بينها. غير أن "أنا صيّاد" تُعد خرقاً للعادة الجارية في رشاقتها وبساطتها، وذلك باعتمادها عاملين إبداعيّين، هما الاقتصاد بالمكوّنات، وعنصر المفاجأة، سواءً لجهة الشكل أم جهةَ الانتقال المقامي. فبعد إتمام عرض المذهب، وعلى قنطرة الكمنجات، تعبر الأغنية بمقطعها الثالث إلى مقام الكرد الوجداني الحزين، نقلةٌ ستُضفي على القالب جزئياً طابع الشكل الثلاثي، لتزيد من الخفّة الموسيقية، وتؤكد على طبيعتها السردية.

على مقام الكرد، يُناجي بلّان الحسناء التي أصابت سيوف رموشها فؤاده، ولسحرها أمسى الصياد الفريسة وبات هو الطريدة. يتساءل: "دربك من وين يا حلوة يا صبيّة، رمشك والعين على قليبي هجموا شويّة".

هنا، يُسهم شجن الكرد في تصوير حال العاشق إثر وقوعه أسير العشق، وبنبرة ينتابها الأسى والضعف يُتابع: "واصطادوني يا ويلي ويل عيوني، وقليبي حب والهوى مش خطيّة". إلا أنه بعد ذلك وبعد تكرار المقطع المتوسّط بُغية تأكيد حضوره بنائياً، ومن حيث انتهى شطر البيت الأخير، بُغتةً وبسلاسة، يهبط بلّان بالأغنية على مدرج الراست، عائداً بمسارها إلى عهدة المذهب من جديد.

يعود المقطع الأخير ليتبع الشكل السابق، بنفس اللحن وعلى ذات المقام، الراست. بيد أن النص بات الآن يتركز كُلياً في موضوع الحب، مُبتعداً عن سردية الصيد والصياد. يتحدث بلان عن سحر الفتاة، وكيف سبق للناس وأن حذّروه من استحالة عدم الوقع في أسرها، إن بادر هو في الحديث إليها: "شفتك والناس، قالولي لا تحاكيها بتقع فيها".

يعود ليؤكد على ضعفه إزاء عاطفة الحُب، وعدم قدرة قلبه على احتمال الوله: "وقلبي الحساس، دقاته وين يخفيها ويخبّيها". بعدها وكما سبق، مع استعادة الانعطافة نحو مقام الصبا، باستعارة شطر المقطع الأول: "وأقول الحق، قلبي ما دق ولاحس ورق لا لا لا" ومن ثم الاستدارة مجدداً إلى الراست، يختم بلان المقطع الأخير، عند الشطر: "إلا لسيوف عينيكي هالسحرية".

باعتماده خلال مقطع ما قبل الختام مقام الراست في التعبير عن حالة الحب، وبالتالي طرح سردية الصياد من المشهد، يُحقق المُلحن حالاً من الدمج بين طرفي النقيض اللذين سبق وأن رسما شكل الأغنية منذ البداية. لم يعد الراست يُمثّل المعتدّ القوي، ولم تعد تتجلّى في النقلة إلى الصبا، هشاشة القلب وانكساره في وجه الحب والهوى. يُسهم ذلك في تحقيق الوحدة التعبيرية، عن طريق الجمع بين الأضداد عند نهاية الأغنية. كما يؤدي إلى التصالح مع حال الضعف الإنساني الذي يجد الرجل المقدام نفسه فيها، في المخيال الشعبي، إثر وقوعه في الحب. "أنا صيّاد" في هذا السياق إذاً، بفطرة فنية صائبة، ومعالجة موسيقية بسيطة وعميقة في الوقت ذاته، هي بمثابة أغنية تُحاكي قيمَ الفروسية الفلكلورية، علاوة على أنها فُصّلت لُتناسب قامة غنائية استثنائية كالتي كانت للراحل فهد بلان، تتماهى من الناحية الشخصية، الفنية والأدائية، بسمات وصفات الفارس، العاشق، البعبع والعصفور، في آن.

المساهمون