سينما أوروبية تُعرّي عنف القارة العجوز

سينما أوروبية تُعرّي عنف القارة العجوز

13 يوليو 2019
ميكال هوغنآور وإليشكا كرينكوفا في "كارلوفي فاري الـ54" (فيسبوك)
+ الخط -
العنف سمة مجتمعات أوروبية مختلفة. السينما حاضرة لتشريح معالم بيئات وأفراد، ولكشف مبطّن تُغلّفه أشكال عديدة من الأكاذيب والأقنعة والأوهام. الطبيعة الأوروبية خلّابة، لكنها عاجزة عن إخفاء ملامح العنف وانعكاساته في نفوسٍ وسلوك وعلاقات. الكاميرا محتالة، فهي تلتقط تفاصيل من جمال طبيعة، يغلب عليها طقس بارد وماطر ومُثلج، قبل أن تخترق جدران منازل وذواتٍ وعقول، بعضها مريض بعنفٍ يُمارِسه، أو بعنفٍ يُمَارس على بعضٍ آخر، سابقًا أو راهنًا.

السينما تلك، المتوغّلة في خفايا أرواح مُقيمة في تشدّد وانغلاق وأفكار مؤهّلة لتعذيبٍ متنوّع الأشكال، غير مكترثة بأحكامٍ أو إدانات أو محاسبة، فالأهمّ ـ بالنسبة إليها ـ كامنٌ في التقاط وقائع وحكايات، وفي تحويل ما تلتقطه إلى صُوَر بصرية، تمتلك حيوية جمالية في معاينة خراب وتحطيم وانكساراتٍ ومواجع. والحيوية معقودة أيضًا على أداء تمثيلي، يُساهم في تمتين البناء والمناخ الدراميين والسرد الحكائيّ، المتمكّن غالبًا من تخفيف حدّة الوقائع وقسوتها، لتتماهى السينما مع تلك الوقائع، فتمنحها شرعية أن تكون مرايا تُعرّي أحوالاً، وتفضح انفعالات، وتبوح بمخفيّ.

التخفيف من حدّة الوقائع وقسوتها لن يمنع الأفلام، المعنيّة بها، من أن تكون حادّة وقاسية. فالتخفيف ينعكس في انتقاء نسبة قليلة للغاية من تلك الوقائع، لتبيان أحداثٍ تشهدها تلك المجتمعات، وبعض المجتمعات متديّن وملتزم سلوكًا دينيًا متشدّدًا في التربية والعلاقات والمسارات، ما يزيد حدّةَ تصرّف وقسوةَ علاقة واضطرابَ مسار. التخفيف حاجة مهنيّة بحتة، تقول بضرورة تكثيف الواقعيّ، فنموذج واحد منه كافٍ لكشف حجم الدمار الحاصل في الاجتماع والنفوس والسلطة والبيئات.

أفلام كهذه معروضة في الدورة الـ54 لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، المُقامة بين 28 يونيو/ حزيران و6 يوليو/ تموز 2019. أحدها بعنوان "ليكن نورًا" (2019، إنتاج مشترك بين جمهوريتي سلوفاكيا وتشيكيا) لماركو سْكوب، ينال ميلان أونديك عن دوره فيه جائزة أفضل ممثل في المسابقة الرسمية. فيلمان آخران مُشاركان في مسابقة "شرق الغرب"، التي تُعتبر ثاني أهمّ برنامج بعد المسابقة الرسمية: "نوعٌ ما من الصمت" (2019، إنتاج مشترك بين جمهورية تشيكيا وهولندا ولاتفيا) لميكال هوغنآور، و"صمتٌ اسكندينافيّ" (2019، إنتاج مشترك بين إستونيا وفرنسا وبلجيكا، 2019) لمارتي هيلدي.

يتفرّد "ليكن نورًا" عن الفيلمين الآخرين باتّخاذه بلدة ريفية سلوفاكية، غارقة في الثلج والصقيع، تعيش حياة هادئة، ويمارس ناسها طقوس عيشٍ خاضعة لقواعد صارمة في العلاقات والسلوك والتزام الإيمان وطقوسه ومتطلّباته. داخل العائلة، يعتاد الأبناء على طلب المغفرة من الوالدين بتقبيل اليد، فيجيب الوالدان بأنّ "الله يغفر". طقس أسبوعيّ يحصل داخل المنزل العائلي، قبل توجّه الجميع إلى الكنيسة، للمشاركة في قدّاس الأحد. الأب عاملٌ في ألمانيا، لكسب أموال أكثر. له ابنان وابنة. زوجته تحاول الحفاظ على تماسك داخلي، يبدو أنّه ينهار تدريجيًا. الملامح الصامتة والحزينة والمنغلقة على ذاتها، المرسومة على وجوهٍ أو الظاهرة في مسلك، تعكس شيئًا من خرابٍ يعتمل في النفس والروح والعلاقات. عودة الأب إلى عائلته وبلدته تتزامن وبداية انهيار فظيع، عشية الاحتفال بعيد الميلاد. انتحار شابٍ يُفترض به أن يكون صديقًا للابن البكر، بداية سقوط أقنعة كثيرة، يختبئ الجميع خلفها. سلطة الكنيسة أقوى وأهمّ، وأقدر على الحماية من تلك التي تملكها الشرطة (يطلب الابن البكر من والده عدم اللجوء إلى الشرطة، فالكاهن أقدر على الحماية وحلّ المشاكل).
هذه تفاصيل أساسية. التكوين الديني المسيحي المتزمّت جزءٌ جوهريّ في التربية اليومية. التمزّقات حاصلةٌ إنْ بسبب هذا التكوين وتشدّده، أو بسبب غياب الأب. عنف مراهقين يؤدّي إلى انتحار الشاب. عنف ردّة الفعل إزاء الأب وعائلته يظهر في ملامح وتصرّفات. البيئة الريفية الصغيرة مُقيمة في عنفها، الذي يتجلّى بعضه في أفعال مراهقين، وفي امتلاك الأب، المبتسم والمرح وصاحب نكاتٍ يظنّها مُضحكة، أسلحة يُقفل عليها خزانته. 

"نوعٌ ما من الصمت" مستلّ من وقائع حقيقية، من دون التزامها كلّيًا. جُرمٌ تشهده ألمانيا قبل أعوام، يتمّ كشفه في سبتمبر/ أيلول 2013. "طائفة القبائل الـ12" تصنع مجنّدين جددًا عبر غسل الأدمغة. دعمها المالي متأتٍ من اهتمامها بالماشية والزراعة العضوية، وإدارتها سلسلة فنادق ومطاعم (Yellow Deli) ومصانع أثاث. بحسب معلومات متوفّرة عن الطائفة هذه، فإن معظم أعضائها يُمكن وصفهم بكونهم "عبيدًا حديثين". يرفضون إرسال أولادهم إلى المدارس العامّة، ويتولّون بأنفسهم تعليمهم بإمكانياتهم الخاصّة. هدف الطائفة تجنيد 144 ألف "صبي نقي وصافٍ"، ليتمكّن المسيح من العودة إلى الأرض. يُعاقَب الأطفال بالضرب تعبيرًا عن "الحب". الطائفة خاضعة للاستبداديّ ألبرت أوجين سبريغز، ولها مكاتب في كندا والولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وفرنسا وإسبانيا وجمهورية تشيكيا.

تصل شابّة إلى منزل عائليّ للبدء بعملها الجديد كمربّية للابن الوحيد. منذ اللحظات الأولى، تكتشف صرامة في تعامل الوالدين مع ابنهما، ومعها. بعض التفاصيل السابقة تنكشف تدريجيًا في مسار الشابّة، المتنبّهة ـ شيئًا فشيئًا ـ إلى محيطٍ يحاصرها بتعنّت وقسوة، وإنْ يمارَسَان برويّة. لقطات توقف السرد الحكائيّ أحيانًا، تظهر الشابّة فيها أثناء تحقيق يُجريه رجل أمن مدنيّ معها. الشابّة تشيكية، مولودة في براغ. تذهب إلى تلك المدينة الألمانية الصغيرة، فتكتشف عالمًا مليئًا بالتمزّق والتسلّط والاضطرابات. تحاول خلاصًا، فتفشل. تجد نفسها متورّطة بألاعيب الوالدين، قبل وصول الشرطة، وخروجها محمّلة بجرح نفسي وارتباك روحي.
"صمتٌ اسكندنافيّ" مختلفٌ تمامًا، بسرده وشكله وآلية اشتغاله. لقطات علوية عديدة تُظهر طبيعة ثلجية وغابة وبحرًا، وطرقات تمرّ بينها. النص يروي حكاية شقيقين يلتقيان في دربٍ تؤدّي بهما إلى اللانهاية. الحكاية نفسها تُروى على لسان الشقيق أولاً، الخارج من السجن بعد تمضيته وقتًا فيه بسبب جُرمٍ يُرتكَب في العائلة. يخبر شقيقته أمورًا وتفاصيل، ويُعبِّر عن انفعال. هي صامتة. الفصل الثاني يعكس الحالة: هي تتكلّم، فتبوح له بأشياء غير عارفٍ بها، وهو يستمع إليها. في النهاية، تُطاردهما الشرطة، لأن السيارة مسروقة.

اختزال الحكايات الـ3 لن يحول دون متع عديدة في مُشاهدات مختلفة. العنف يتجلّى بأشكالٍ، بعضها غير متوقّع. المشترك بين الأفلام الـ3 كامنٌ في حدّة العنف وقسوته، في بيئات اجتماعية تُقدِّم صورًا متناقضة مع حقائق ووقائع مخفيّة. هذا لا علاقة له براهنٍ أوروبيّ، يُعاني وطأة اللجوء الذي تشهده القارة العجوز في الأعوام السابقة. تلميحٌ عابرٌ يعكس نمط تفكير لدى أفراد منتمين إلى بيئة مسيحية متشدّدة وصارمة، إذْ يقول الأب للكاهن (ليكن نورًا) إنّ مسلمين عديدين يحولون أحيانًا دون تمكّن الآخرين من العثور على عمل في ألمانيا. لكن جذر العنف الأوروبيّ فاعلٌ وعميق في البيئة الاجتماعية الأوروبية، لأسبابٍ كثيرة تكشف الأفلام الـ3 بعضها (تزمّتًا دينيًا، تسلّطًا عائليًّا، صرامة قوانين معيشية ونفسية وتربوية)، من دون تحليل أو تشريحٍ أو أحكامٍ. مع هذا، تبدو الأحكام مُبطّنة، فالسرد المُشوَّق لأحوال أفرادٍ، يعانون وطأة العنف، يُشير إلى أسبابٍ تحتاج إلى حلول.

"صمتٌ اسكندنافي" أكثر الأفلام ميلاً إلى شعرية صورة وقول وتعبير، بصري وحسّي وجماليّ. طريقة التصوير، ذات اللون الرماديّ المتماهي مع الأسود والأبيض، تجعل الجمل المروية على لساني الشقيقين، بنبرة هادئة تحمل غليانًا قويًا في الذات والروح، أشبه بقصائد عن خراب وخيبة وألم وفراق وموت، وعلاقات ملتبسة ومتداخلة ومعقّدة. الطقس الماطر، بثلوجه البيضاء أحيانًا، سمة تجمع الأفلام الـ3 معًا، مع غلبة للرماديّ المتوافق وطقسٍ كهذا.

عنفٌ أوروبي، تفضحه أفلامٌ أوروبية تمتلك جمالية صورة واشتغال، وتصنع من الحكايات الواقعية متتاليات بصرية مُفعمة بتناقضاتٍ وتفاصيل ومسارات ومصائر.

دلالات

المساهمون