الموسيقى والفن التشكيلي: فاسيلي كاندينسكي يمزج النغمات والألوان

الموسيقى والفن التشكيلي: فاسيلي كاندينسكي يمزج النغمات والألوان

20 يناير 2019
"التكوين 10" التي تمثّل التناغم المرئي في أعمال الفنان
+ الخط -
بينما كان فاسيلي كاندينسكي (1866 - 1944)، طالب القانون حينها ورائد الفن التجريدي لاحقاً، يحضر حفلاً للموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر في مسرح البلشوي؛ فإذا بأمر غريب يحدث له، ربما للمرة الأولى، وهو يستمع للموسيقى. تمثلت النغمات أمام عينيه ألواناً، وعبّر عن هذه الحالة فيما بعد بقوله: "رأيت كل الألوان في روحي قبل أن تراها عيناي".

الواقعة غير المألوفة غيرت مسار حياة كاندينسكي، الذي درس القانون والاقتصاد، واختط لمستقبله طريقاً بعيداً كل البعد عن ميوله الفنية القوية نحو الموسيقى والرسم. اقترنت هذه الحادثة بأخرى، أكدت له صحة قراره؛ فعند زيارته معرضاً عُرضت فيه عدة لوحات للرسام الفرنسي كلود مونيه تحت اسم "أكوام التبن"، توقف عندها؛ إذ فتنته ألوانها وأحب أن يحيا بينها، بين الألوان. عندها، حزم أمره وغادر بلده موسكو إلى ميونخ لدراسة الموسيقى.

ما شعر به كاندينسكي، وعبّر عنه من رؤيته الموسيقى ملونة، هي حالة عصبية أثبتها علماء الأعصاب تحت اسم الحس المرافق، أو "السينثيسيا". تتمثل هذه الحالة في امتزاج الحواس ببعضها، كأن يرتبط التذوق بالموسيقى، أو تتداخل الحروف والأرقام بالألوان، أو تقترن بالموسيقى، كما في حالة هذا الفنان. ورصد علماء الأعصاب حالات أخرى لمشاهير الفن، بخلاف كاندينسكي، مثل أوليفيير ميسيان (مؤلف موسيقي)، وفرانز ليفت (مؤلف موسيقي)، ماري ج. بلايج (مغنية وكاتبة)، والشاعر الفرنسي تشارل بودلير، كما اشتهر عن بيتهوفن أنه كان يسمي الـ D major بالمفتاح البرتقالي، والـ B minor بالمفتاح الأسود، لكن ليس مؤكدا أن بيتهوفن عرف "الحس المرافق".

على أية حال، رفض كثيرون تصديق حدوث "الإحساس المتزامن" أو "الحس المرافق"، مرجحين أن ادعاء هذه الحالة من قبل البعض كان تحت تأثير آراء شوبنهاور وغوته حول تجريدية الموسيقى وامتزاج الحواس. لكن، أخيراً، أجرى عدد من أطباء الأعصاب عدة تجارب حول الظاهرة الحسية، فأخضعوا بعض من ادعوا وقوعهم تحت تلك الحالة لمسح دماغي بعد عصب عيونهم، وسجلت التجارب، بالفعل، نشاطاً بصرياً، يحدث عند سماعهم أصواتاً معينة.

خبر كاندينسكي هذه الحالة في الثلاثين من عمره، وكان قد تم تعيينه أستاذاً للقانون في جامعة تارتو بأستونيا، لكنه انتقل، تحت تأثير النشوة الفنية التي استحوذت عليه منذ حفل فاغنر ومعرض مونيه، إلى ميونخ لدراسة الفن في أكاديمية الفنون الجميلة، عاد بعدها إلى موسكو (1914)، غير أنها عجزت عن إلهامه؛ فغادرها عائداً إلى ميونخ (1921)، ليدرس الهندسة المعمارية في مدرسة باوهاوس حتى أغلقها النازيون (1933). لاحقاً، انتقل إلى باريس، وهناك عمل على تطوير مدرسته في الفن التجريدي.

تخلى كاندينسكي عن التصوير الطبيعي واتجه تحركه لحظات الوجد والدهشة التي عاينها مع فاغنر ومونيه إلى أن يجعل مشاعره الداخلية هي ريشته التي يرسم بها لوحاته. وعن هذا التحول، خطّ كاندينسكي في كتابه "نظرات عن الماضي". يقول: "يزداد يقيني، يوماً بعد يوم، بأن الرغبة الداخلية للفنان، هي التي تحدد الشكل، وأن الانفصال بين مجال الفن ومجال الطبيعة يقوى يوماً بعد يوم، حتى أنني أرى أن كلاً منهما منفصل تمام الانفصال عن الآخر. لقد علمت أن موضوعات الطبيعة كانت تفسد رسوماتي".

حاول كاندينسكي خلق لغة جديدة ذات إيقاع مصنوع، تمنح المتلقي الحرية في استقبال العمل الفني كما يشاء له خياله، وأصبحت الموسيقى الأساس لهذه اللغة. وبجانب فاغنر، كان هناك موسيقي آخر ألهمت سيمفونياته كاندينسكي، هو النمساوي أرنولد شونبرغ، وكان التعارف الأول بينهما في حفل لأرنولد عام 1911. بعد يومين من الحفل، أنهى كاندينسكي لوحته "انطباع 3" من وحي موسيقى شونبرغ.

أصبح كاندينسكي المنظر الأول لهذا التوجه الجديد في الفن التشكيلي، ووضع العديد من المؤلفات في التنظير له، أشهرها كتابه "الروحانية في الفن"، وتوالت أعماله النظرية، إلى جانب لوحاته، مستهدفة التأصيل في مقدرة اللون على تجسيد الصوت والعاطفة المرتبطة به، لينفصل بفنه عن التصور القديم لعصر النهضة، الذي كان يستبد به الطموح إلى تجسيد الأجسام في أبعادها الثلاثة، وتمثيلها بحسب الزوايا التي تتيحها المنظورية، فتقدم كاندينسكي برؤيته التجريدية التي تتضمن رسومات مسطحة ذات بعدين، لا تبالي بالمنظورية ولا بالتمثيلية.

وكان له الفضل في تقديم الموسيقى كمصدر للإلهام في الفن التشكيلي إلى جانب الطبيعة والأدب والمسرح، عبر استدعاء اللون والشكل من خلال الصوت، أو النغم المسموع.
 
اعتقد كاندنيسكي أن لكل نغمة وقعها اللوني الذي يتناسب في الدرجة مع قوة النغمة، وأن درجة الإشباع اللوني تتوافق مع مساحة الصوت. وعبّر التشكيلي الروسي عن هذه الحالة في إحدى كتاباته قائلاً: "اللون هو لوحة المفاتيح، العيون هي التناسق، الروح هي البيانو متعدد الأوتار. الفنان هو اليد التي تعزف، تلمس مفتاحاً هنا أو هناك لتبدع اهتزازاتٍ روحيةً لا تتوقف".

اللون، بحسب تصور كاندينسكي، هو إيحاء لغوي مستمد من تداخل الدلالات العقلية بالدلالات المسموعة، ليكتسب كل منهما خصائص الأخرى؛ فتمتزج طبيعة اللون البصرية بطبيعة الصوت السمعية. يرى كاندينسكي أن هذا المزيج يكون قادراً على أن يمس عوالم الإنسان الداخلية كما الخارجية.

الموسيقى، وفق التشكيلي الروسي، إذن هي ألوان غير مرئية، ومن خلال مذهبه الفني يستطيع الرسام أن يجمع بين الصورتين: المرئية (الألوان) واللامرئية (الموسيقى)، لينفجر اللون بالعاطفة، مكوّناً بقعاً دائرية متحررة من الأشكال العضوية، كما في لوحات كاندينسكي، الذي نظّر في كتاباته إلى أن اللون هو الأكثر تعبيراً عن اللامرئي.

هدف كاندينسكي إلى تحرير الفن التشكيلي من سطوة التمثيل الصوري، واضعاً نظاما غير خاضع لـ "الضرورات الخارجية" ليعبر عن "الداخلية" منها، التي تستمد إلهامها من الموسيقى بالدرجة الأولى. ولتعميق إظهار الجانب الداخلي، استعمل موسيقار الألوان الإيقاع والوتريات في خدمة اللون، وذلك في محاولة لـ "خلق نظام من الرموز متحرر إزاء كل ضرورة خارجية.. بهدف التعبير عن ضرورة داخلية".

لوحة "التكوين 10" رسمها كاندينسكي عام 1939، تتكون من كتل لونية متنوعة، متفاوتة الحجم، ويغطي فراغاتها اللون الأسود، لتتوزع على امتداده إشارات خطية رفيعة. رتب كاندينسكي الألوان في تناغم مرئي على غرار المقطوعات الموسيقية، فـ "الألوان هي المفاتيح"، و"الروح هي البيانو والأوتار"؛ لتؤلف اللوحة سيمفونية بصرية، قوامها الأخضر البارد والأزرق "الرنان" والبرتقالي والأصفر الدافئ، وقد توزعت في ضربات "متعددة الأصوات والنغمات"، في محاولة لاستدعاء الصوت من خلال البصر.

دلالات

المساهمون