"تُحفٌ" سينمائية تعكس صرخات ألم وقهر

"تُحفٌ" سينمائية تعكس صرخات ألم وقهر

30 سبتمبر 2019
"المرأة الباكية": صرخات مكتومة وانتقام صامت (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
خسائر آباء وأمهات لأطفالهم، ومظالمهم وصرخاتهم الموجعة، يتردّد صداها في نتاجات سينمائية جديدة، مُشاركة في الدورة الثالثة (19 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان الجونة السينمائي". المُشترك بينها كامنٌ في تجلّي مشهد بشري قاتم. القسوة عنوانها الأسطع، ومنه تأتي المقاربات لتحيل إلى تأمّل في أحوال الناس في جغرافيات متباعدة، تشترك في فضح سلوك سلطات ونفوذ مال، تطحن مساكينها بلا رحمة. 

هذا يظهر في اشتغالات أميركية لاتينية، مبتلية بأنظمة عسكرية ديكتاتورية، يُلاحَظ استنكاف مخرجيها وكتّابها عن الانجرار إلى مُباشرةٍ سياسية أو فجاجة أيديولوجية. كأنّ هناك اتفاقًا غير معلن بينهم، ينصّ على أن تُحمَّل الاشتغالات بموروثات محلية، إذ عبر هذا يمكن تكثيف مدلولات القسوة واللارحمة أكثر.

في "أغنية بلا عنوان" (2019)، تختار البيروفية ميلينا ليون الأسود والأبيض لإضفاء مزيد من العتمة على حالة الأم، التي تُسرَق مولودتها منها لحظة ولادتها، فتلازمها حرقتها عليها طيلة بحثها اليائس عنها. لا يشبه نحيبها ولا صرخاتها الموجعة، المشحونة بمرارة الفقدان، إلاّ صرخة "المرأة الباكية" (2019) على ولديها، وهي تشاهد جنود الجنرال إنريكه مونتفيردي يغرقانهما في النهر. يتسرّب بكاؤها المرّ إلى بيت الجنرال، عبر الجدران ومسامات الهواء، ليقلق مضجعه، ويُدخل الرعب إلى قلبه.

الضحايا في الفيلمين من السكان الأصليين. أناسٌ مسالمون. دواخلهم قوية بإيمان "سحري". يُقبلون على الحياة بأغنيات وتعاويذ تحكي عن الموت الطبيعي. لا مكان لعسف السلطات في مخيّلتهم. هم لا يعرفون أصلاً إلاّ سلطة الطبيعة، والخوف منها. هذا يزيد من وجع مشاهدة لحظات جرّهم إلى أفخاخ الموت والاستلاب.

في "أغنية بلا عنوان"، لا يخطر في بال المرأة الحامل أنّ أحدًا سيسرق مولودها. فعلٌ غريب على ثقافتها وأعراف أهلها، الغارقين في سكينة جغرافية، يلفّ الضباب دائمًا جبالهم العالية، فتزداد عزلتهم، وينكفئون عن "العالم الآخر"، المحيط بهم. تذهب إلى العاصمة ليما لتولد جنينها، وتخرج منها وحيدة، غير مُدركة بشاعة العالم "المتمدّن"، الذي دخلته معدمة وحالمة بسعادة مرتجاة.

في منجز الغواتيمالي خايرو بوستامانتي، عودة إلى تاريخ ممنهج في إبادة السكان الأصليين، الرافضين أحكامًا عسكرية تفرض عليهم قوانين تتعارض مع عادات عيشهم. غواتيمالا لا تشذّ عن بقية بلدان القارة، في تجربة تصفية السلطات العسكرية سكّان المناطق البعيدة، المتسرّبة إليها عدوى الأفكار اليسارية، الداعية إلى مقاومة سياسة تفرض نماذج قمعية غربيّة عليها. هذا ما تجليه حوارات عائلة الجنرال بين أفرادها، ومسارات تحقيق الصحافي اليساري، الذي يسعى إلى كشف حقيقة ما تقوم به "عيادات الولادات الوهمية" في البيرو، في ثمانينيات القرن الفائت، التي أفرزتها حركات سياسية متطرّفة (من بين إفرازات عديدة أخرى)، اتّخذت من العمل المسلّح منهجًا لمناهضة الديكتاتوريات الحاكمة.

دراميًا، فإنّ فعل الانتقام في هذين الفيلمين موجز وقصير، على عكس "جِلْد أميركي" (2019) للمخرج والممثل نايت باكر. لكن الأفلام الثلاثة هذه تتشارك في تجسيد الظاهرة، ومحاولة تفسير أسبابها، وليس بالضرورة التوافق معها. اللاتوافق مُعلن في لقطة مكثّفة، تعبّر عن حيرة المرأة المنكوبة والتباس فهمها خسارة ولدها، وانغماس زوجها في حركة تقبل تفجير قنابل في أسواق المدينة. في "المرأة الباكية"، الفعل مؤجّل، ومعبَّر عنه في تظاهرة احتجاجات مدنية لأهالي الضحايا أمام بوابة قصر الجنرال. والتظاهرة تتصاعد بحدود، بينما ينتظر الفعل الحقيقي، بعد دخول المرأة الباكية إلى قصره، فتُصبح قريبة جدًا من حفيدته. تأجيلٌ أضفى عمقًا على جماله، مانحًا المُشاهد فرصة اختيار ما يناسبه من حلول "انتقامية".

في "جِلد أميركي"، تحريض مباشر للمُشاهد على قبول فعل الانتقام من الشرطي الأبيض، الذي يقتل مراهقًا "أسود" ظلمًا. تُهيّئ خسارته الفادحه قبول العنف انتقامًا، بينما يختار طريقه الخاصة، البعيدة عنه. مرارة الفَقد ووجع خسارة الأب، تكثفهما صرخته "أنا أريد ابني"، التي يُكرّرها مخاطبًا المؤسّسة/ قاتلة ابنه. لكن، مَنْ ذا الذي سيعيده إليه، أو سيُعيد الأولاد إلى أمهاتهنّ الثكالى؟ الموتى لن يعودوا أبدًا، فتُنغِّص حسرةُ رجوعهم عيشَ أحبتهم.

"جِلْد أميركي" عنوان فاضح. لون الجلد وحده يكفي في بلد لم يتخلص من عنصريته بعد، محدثًا شرخًا مجتمعيًا يتّسع لقبول ارتكاب شرطته جرائمهم، من دون أن يروا فيها بُعدًا عنصريًا. اشتغال باركر على موضوعه مذهل، فهو من قلّة تريد محاكمة الفكر العنصري، لا فعله فقط. لذا، ينظّم محكمته الخاصة، مُتيحًا للجميع ـ الضحايا والجناة ـ فرصة الدفاع عن أنفسهم. هذا لن يحدث في الواقع. صوت مدّعي الدفاع عن السود لا يزال خافتًا، بينما صوت الجناة عالٍ طاغٍ. أراد هذه المرة أن يفعل العكس، ليرى العالم عبر السينما ما يجري في بلد يتبجّح بديمقراطيته.

يُفكِّك نايت باركر (مؤدّي دور البطولة أيضًا)، في فيلمه المهم، مفهومًا يسمّى "العنصرية غير الواعية". ذلك أن بيضًا كثيرين يمارسونها، بقناعة أن سلوكهم سوي، ينبع من سوء سلوك الآخر، لا في حكمهم المسبق عليه. يُسَفِّه كلّ المُبرّرات الجاهزة والمترسّخة في ذهن المواطن العنصري الأبيض، واضعًا في مقابلها الخسارات الكبيرة، المتأتية بسببها. حاكَمَ فكرًا عنصريًا متجذّرًا، لا ممارساته فقط. أراد المضي إلى العمق، أي إلى جذر الشعور بالتفوّق العرقي، وبالتالي استسهال حامله سحق الآخر من دون ندم.

هل شَعَر الجنرال الغواتيمالي بندمٍ على قراره إبادة من وقف في وجهه؟ هل توقّف لصوص الأطفال في البيرو عن سرقة فلذات أكباد الأمهات الثكالى؟ هل أفزعت صرخات ضابط البحرية الأميركي السابق لنكولن جيفرسون الشرطة العنصريّة في بلده؟

لم تنتظر الأفلام المهمومة بأوجاع الضحايا أجوبة. تركت لمشاهديها التفكير فيها، وربما في اختيار الأحكام المناسبة عليها. من هنا، برز بعض أهميتها على مستوى المضمون. أما فنيًا وجماليًا، فهي تحفٌ بصرية.

المساهمون