أغاني التسعينيات: أن تمشي في حديقةٍ عقداً كاملاً

أغاني التسعينيات: أن تمشي في حديقةٍ عقداً كاملاً

27 اغسطس 2019
بدأت ألحان عمرو دياب بتغيير ملامح ذلك العقد (Getty)
+ الخط -
تبدو الأغاني أشبه بكتابة وجدانية لعصر ما. وعندما نتحدث عن أغاني فترة التسعينيات؛ فإننا نتحدث عن عصر التحولات في الموسيقى العربية، والحياة.
يبدو عام 1991 نهاية لحقبة زمنية وبداية لأخرى؛ سقوط الاتحاد السوفييتي وما تلا ذلك. لعل أسلوب البوب العربي عزز نفسه بالانتصار للرأسمالية والقيم الغربية؛ فأصبحت صناعة الموسيقى استقصاءً سوقياً، توجهه ذائقة الشباب، مع أنها، كفئة، ظلت مهمشة على الصعيد السياسي.

ما جعل التسعينيات عقداً فريداً، تلك الثقة التي اكتسبها جيل غنائي كامل، وربما جيلان، مقارنة بالثمانينيات الصبيانية. في رسالة يتضمنها فيديو كليب أغنية "راجعين" لعمرو دياب عام 1995، يظهر المغني منتقلاً على مركبة زمن، دخوله بهيئة ملونة، في محيط بالأبيض والأسود، كتعبير عن الماضي. يقف عند البيانو، ملقناً العازف الرتم المسرّع للحن. كأنه يريد توجيه رسالة بأن جيله لم ينحرف، إنما اختلف رتمه وأسلوبه. ولعل رهان الثمانينيات على زوال أغاني البوب، كان مثل الرهان على سقوط الرأسمالية، فجاءت التسعينيات بردا قاسيا.

عندما أرادت وردة الجزائرية، مثلاً، إصدار ألبوم غنائي، بداية التسعينيات، بحثت عن ألحان مواكبة للعصر من دون أن تسيء لمسيرتها الغنائية. فوجدت غايتها بألحان صلاح الشرنوبي، لكنها من ناحية كانت شاهداً على انتصار التسعينيات وأساليبها، إذ فُرضت صناعة الموسيقى على الجميع ليلتحقوا بقطار التغيير الغنائي، وبدرجات متفاوتة أيضاً.


صدرت "بتونس بيك"، عام 1992، مُشبعة بكثير من ملامح الرومانتيكية- الشعبية؛ مدخل الإدليب حمل أسلوباً كلاسيكياً بعض الشيء، وكذلك الأوكورديون الشرقي بجمله الراقصة. نلتفت، أيضاً، إلى دخول صوت وردة من طبقة منخفضة.

ومع أن وردة تنتمي لجيل سابق، إلا أنها قدمت أغنية بروح العصر، مع التزام ببعض تقاليد الغناء الكلاسيكي. تنقلات مقامية محدودة؛ لحن المذهب من مقام النهاوند مع تحول بسيط إلى البيات قبل نهايته، ثم ينتقل إلى البيات في لحن الكوبليهين.

شكل صلاح الشرنوبي أحد المسارات المعتدلة في التسعينيات. وبدا كما لو أنه وريث لبليغ حمدي، باعتباره بوابة النجوم لنجاح أغانيهم. وأصبح مقصداً لكثير من نجوم الغناء. وربما استهلكته النجومية لكثر ما لحن آنذاك.


مع هذا، لم يقترب عمرو دياب، نجم التسعينيات الأول، من الشرنوبي. واعتمد في مساره على أسماء أخرى، حقق معها نجاحه، مع تغييرها من وقت لآخر.

لم تكن أغنية "نور العين" أجمل أغاني عمرو دياب في تلك الفترة، لكن نجاحها المبهر يجعل من الصعب تجاهلها. فهي لم تشكل نقلة في مسيرته فقط، إنما في تطور أساليب التوزيع الموسيقي لأغاني البوب العربي، وأصبح الغيتار الإسباني ركناً مهماً في كثير منها. لحّن ناصر المزداوي الأغنية على مقام الحجاز، وهو المقام الموسيقي المشترك بين العرب والغجر. ولعب التوزيع الموسيقي لحميد الشاعري الدور الأبرز في نجاحها العالمي.

سبق محمد منير جيلين في البحث عن صوت موسيقي مغاير. ذهب إلى القاهرة حاملاً معه جذوره النوبية، وساهمت في تحرره الغنائي. كما تميز باختيار مضامين شعرية مغايرة لقاموس الأغاني المُستهلك. وربما أكثر نجاحاته، نقل ثقافة محلية هامشية إلى فضاء عربي واسع.
شكل انتصار الرأسمالية موت الأحلام السياسية الباحثة عن يوتيوبيات؛ حتى أن فوكوياما في كتابه "نهاية العالم" (1992) جزم أن ما سينتهي عليه التاريخ هو الرأسمالية.

في أغنية "لو بطلنا نحلم نموت"، يراهن منير على الحلم، حتى لا تكون النهايات حتمية. الأغنية على مقام النهاوند، لحن إيقاعي هادئ وظف كورسا نسائيا في الجملة الموسيقية، الغيتارات وإيقاعا غربيا. كانت أيضاً قيم الموسيقى الغربية تؤكد هيمنتها، كما الكوكاكولا والماكدونالدز.

انفتح الباب على مصراعيه للسوق، وكانت التسعينيات فترة الشعور الزاهي بالتقدم، لتساهم التقنيات الصوتية في تطوير صناعة الموسيقى العربية. لكن عام 1994 حمل لنا استعادة الكثير من الثيمات اللحنية الشرقية. ظهر عمرو دياب ممسكاً بالعود، على غير العادة لذلك الجيل، وغنى "يا عمرنا" بأسلوب يحاكي التطريب.

لم يتوقف الأمر عند ذلك، كما لو كان وجه الحنين أحد أوجه التسعينيات العديدة. نفس العام، وضع محمد فؤاد نفسه في قمة مغني البوب، وحقق بأغنيته "هودعك" صدارة المبيعات في سوق الألبوم للمرة الأولى. لحن الأغنية حسن دنيا على مقام البيات، غناء شرقي ذو طابع شعبي، مزج الساكسفون، ذو ربع التون، مع الأوكورديون على طريقة السبعينيات، في جمل لحنية قصيرة وراقصة. مع هذا لا يمكن التوقف عند التسعينيات من دون الوقوف عند أغنيته "فاكرك يا ناسيني" بلحنها المرح والخفيف.


في هذا السياق، يحضر لحن لإيهاب توفيق بمزيج شعبي- شرقي، وإن كان على مقام الكرد، هو "وعدّى الليل" للملحن حسن أبو السعود. ولعل توزيع طارق عاكف حدّد سمات كثير من أغاني النصف الأول للتسعينيات، خصوصاً بتوظيفه الجمل الراقصة، الأوكورديون مع الوتريات، وأحيانا الساكسفون. لكن هذا النوع الموسيقي سيبهت في النصف الثاني من التسعينيات.

كانت أغنية "سكة العاشقين" لمصطفى قمر، ذات طابع كلاسيكي أكثر عصرية مقارنة بسابقتيها. أحيت الأغنية الكثير من روح الستينيات والسبعينيات، بطابعها الرومانتيكي الشعبي. لحن الأغنية مصطفى قمر من مقام الكرد، وبرع حميد الشاعري، أحد آباء تلك المرحلة، في إشباعها موسيقياً بكلاسيكية عصرية. مقدمة موسيقية طويلة تشق وترياتها ضربات أجراس، صوت مزماري، عزف منفرد لكمان لافت بزخارف شرقية.
شكلت التسعينيات أيضاً مرحلة إحياء عناصر متجاورة، كذلك ظهرت نزعات توليفية. في ألبومه اللاحق، يدمج مصطفى قمر لحنَيْن لعبد الحليم، هما "بعد إيه" و"الليالي"، مع موسيقى تصويرية لفيلم قديم في أغنيته "خايف". كانت السمة في الرؤية اللحنية الحديثة، وكأنها عملية كولاج موسيقي.

ذهب عام 1995 أبعد في استعادة الثيمات الشرقية؛ وكانت ربما أجمل أغاني ذلك العام "وحياتي عندك" للتونسية الراحلة ذكرى. لحنها الشرنوبي على مقام الراست. وهو مقام يكاد يكون منسياً في أغاني البوب. أما التوزيع الموسيقي فكان لا بد من الاعتماد على ملحن ضليع بالموسيقى الشرقية، أي يحيى الموجي، مع توظيف للكيبورد والوتريات.

في نفس العام، حققت أيضاً اغنية اللبنانية نجوى كرم "ما بسمحلك" من مقام الهُزام المتفرع من السيكاه نجاحاً مدوياً، وهو مقام ذو طابع شعبي مرح، وأصبح هو الآخر شبه منسي في إصدارات البوب، وكان للمزمار دور في إعطاء مسحة لبنانية نابعة من الجبل. وكأنها صحوة تسبق الاحتضار لتلك المقامات.
وعلى عكس هيمنة القطب الواحد سياسياً، تعددت الأصوات الغنائية العربية لتحد من الهيمنة المصرية الطاغية.

هبت عاصفة الراي الجزائرية بصوت الشابين خالد ومامي في التسعينيات، لكنها انتشرت عربياً نتيجة انتشار عالمي. كانت أغنية "دي دي" للشاب خالد عام 1992، واحدة من أكثر أغاني التسعينيات نجاحاً حول العالم. وبدأ جنون النشوة الجزائرية؛ تضمين موسيقى الراي بتوزيع موسيقي حديث ومتطور، وهو ما استوعبه صانعو الموسيقى في مصر والشرق الأوسط لاحقاً، في محاولتهم لبلوغ العالمية. وكانت بحة الشاب خالد تحمل معها جذور غناء صوفي في مزيج من الراي والبوب، وبنزوع دنيوي أكثر.

بالنسبة للغناء الخليجي، الذي يشكل الغناء اليمني حضوراً هائلاً فيه، كان وجوده راسخاً في الجزيرة العربية، وحقق انتشاراً نسبياً خارجه. لكنه أيضاً استحضر البوب الخاص الذي أصبح راسخاً في التسعينيات محققاً انتشاراً أوسع. كما أننا سنلحظ اقتفاءه البوب العربي عبر استهلاكه مقام الكرد. ربما أكثر الأغاني التي انتشرت في تلك الفترة، لعبد المجيد عبدالله، مثل "رهيب"، و"يا طيب القلب"، أو بعض أغاني راشد الماجد.

تتسم الأغنية العراقية بموروث عريق؛ وهي مدرسة أظهرت لنا أصواتاً مهمّة، مثل ناظم الغزالي، وبدرجة أقل سعدون جابر، ويتسم هذا اللون بالحزن الداكن. صعدت نجومية كاظم الساهر في التسعينيات. وبصرف النظر عن وجود أصوات عراقية أكثر أهمية. كان لكاظم الدور الأبرز في نشر الغناء العراقي على نطاق عربي واسع، وربما ساهم تطعيمه عناصر عربية في هذا الانتشار.

كما أنه برز في محاولته لإعادة غناء قصائد نزار قباني. ربما أغنية "علمني حبك" خلاصة تلك التجربة، وهو لحن من مقام الكرد، حاول الانتساب إلى الغناء الكلاسيكي مع حضور الآهات المفتعلة نسبياً، وبعض اللمحات التطريبية التي أجادها في تنقلاته نحو ربع الصوت.
حضرت أيضاً اشكال رومانسية من أجيال سابقة، سميرة سعيد في أغنية "بشتقلك ساعات" من النهاوند، كذلك "حبك هادئ" للطيفة التونسية. والنجمتان بدأتا امتداداً لأساليب السبعينيات، وأصبحتا أبرز نجمات الغناء في الثمانينيات. لكن سطوة البوب، فرضت على الجميع الالتحاق بقطاره.


من ناحية أخرى، كان النجم السوري جورج وسوف في التسعينيات مغايراً بصورة كلية عن بداياته في الثمانينيات. اختفت حدة صوته الطفولية، وظهرت مكتسبة طبقة غليظة في "كلام الناس"، كما تغيرت ملامحه بنفس الصيغة. لكنه احتفظ بأسلوبه الانفعالي، وأصبح مع الوقت اكثر فجاجة بالزخارف، وكان الشرنوبي الوجه الملائم لأغانيه، لتشكّل أغنيتاه "كلام الناس" و"طبيب جراح" (من مقام الكرد) إحدى ضربات التسعينيات.

بالنسبة لراغب علامة، فإن متغيرات التسعينيات، لم تكن بتلك الصورة، فالجميع أصبح منساقاً إلى غناء البوب. وبدأ علامة التسعينيات بواحدة من أجمل أغانيه، "قلبي عشقها"، وكان لحنها على مقام النهاوند. لكن نجاحه سيعتمد على ملحنين مثل الشرنوبي في "مغرم يا ليل"، وأيضاً على أبو السعود في "عشت ليكِ". فرضت التسعينيات متغيرات وانعكست على اختيارات علامة. كانت سنوات نجومية حافلة؛ توّجتها "علّمتيني".

بدت التسعينيات كما لو أنها سنوات الشباب غير القابلة للتفسخ. واستمر المرح والحزن يحدد الشخصية الغنائية للبعض، مع محدودية مساحة الأصوات. هشام عباس في "قولي" بالنفخيات البراقة على طريقة الروك. وابن حيه شبرا محمد محيي الملفع بالحزن في "يا أهل الملامة". وربما الحزن البلدي الكئيب، كما "كتاب حياتي يا عين" لحسن الأسمر وريث أحمد عدوية، النمط الذي قدمه حكيم بأسلوب "البوب" في التسعينيات.

وظهرت أساليب تعبيرية دارجة ويومية، مثل "على كيفك ميل" التي لعلعت بصوت إيهاب توفيق بداية التسعينيات، ووضع لحنها مصطفى قمر. لم تثنهما دوافع التنافس عن أن يعلنا صداقتهما في الأغنية. ربما كانت آخر ما أرادته التسعينيات من بقايا الإنسان: الصداقة والحلم.
تهاوت الأحلام الكبيرة في التسعينيات، كان عصراً براقاً، وميكانيكياً، ارتبطت جماليته بخشخشة النقود، وكذلك حوافزه. تزايدت احتياجات الأسرة وارتفع متوسط الإنفاق، الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء أكثر غنى.
تحكي أغنية تسعينية، قصة الفقير الذي يحلم بحياة المليونيرات، إحدى أغاني مدحت صالح، إذ تغير شكل الحلم إلى العابر واليومي. اعتمدت الأغنية على توزيع ساذج هيمن عليه الكيبورد. وفي نهاية التسعينيات حاكت الموسيقى الأساليب المتطورة في الغرب. لكنه تطور انتقل في أواخره محدداً أسلوب الغناء في أول عقد من الألفية؛ وتحديداً مع أسلوب توزيع شهدته ألحان عمرو دياب، في تدرج بلغت فيه "قمرين" أسلوب الغناء الأميركي- الإسباني، والأهم في ذلك المسار، كان إحداث نقلات في أساليب الموسيقى واللحن لأغاني البوب العربي.

المساهمون