"ماوغلي": اهربْ بسرعة

"ماوغلي": اهربْ بسرعة

07 فبراير 2019
احذرْ شعبَ القردة، لأنه شعب بلا قوانين (Imdb)
+ الخط -
سردياً، يبدأ فيلم "ماوغلي" (2018) لـ أندي سِرْكِس بخلل مكاني ترتَّب عليه حدث استثنائي: ظهور رضيع بشري في الغابة. رضيع يحميه فهد أسود وتُرضعه ذئبة، ثم يتولّى دبّ تربيته. يسجل الدبّ أن الأطفال يعوزهم التركيز للنجاة من المخاطر. يقول الدب لماوغلي: "عندما تهرب، افعلْ ذلك بسرعة، لأن من يهرب مُهدّد بأن يصير فريسة، ولا توجد فرصة ثانية في الغابة". يصطاد الفهد للضرورة فقط. لا مكان لصيادي المتعة في الغابة. القتل للمتعة عاهة بشرية فقط. 
يتابع المربّي الحكيم: "احذرْ شعبَ القردة، لأنه شعب بلا قوانين. اقبلْ نتائج كلّ رهان تدخل فيه. هذه هي النزاهة. قد يكون الخوف جواباً ذكياً في بعض الظروف".
يشرح الفيلم نظام الحكم بمنهج قانون الغاب. الذئب الذي ينتصر على الذئاب المنافسة له يصير زعيماً. يبدو أنّ سلوك "أمير" نيكولا ماكيافيلّي غير بعيد عن هذا. في "ماوغلي"، الإنسان مُسلّح بالنار، وهي أسرع من الفهد الأسود. بفضل النار، صار الإنسان ملك الغابة. نقل الإنسان النار من الموقد إلى البندقية. في "ماوغلي"، طفلٌ ربّاه ذئب. لكن الإنسان أخطر من الذئاب، بدليل أنه قهر النمور. شيركان نمر حقير، لأنه يتّخذ الضّبع صديقاً له.
ذات مرة، جاع ماوغلي ولم ينتبه، فخطفه القرد، ابن عمه. تأكّدت النصيحة. كلّ نصيحة يقولها المربّي تتعرّض للاختبار. هنا يظهر المنهج التجريبي من خلال سلوك الشخصيات.
هذه تفسيرات سوسيولوجية وليست تخييلاً. لشدّة قوّتها، يزداد عدد مُشاهدي سيرة ماوغلي مع الزمن.
في النصف الثاني من الفيلم، ينتقل الطفل ماوغلي من الغابة إلى المجتمع. كان يتناول أكلاً نيئاً، ثم بدأ يستهلك المطبوخ. هذا مدار غير حزين.
بصرياً، هناك لقطات قصيرة وسريعة. كادر كثيف في مقدمته وعمقه، فيه لعب ماهر بالضوء والظل معاً. هناك تنوّع في حركة الكاميرا: تتقدّم وتتراجع، تصعد وتنزل. هذا يُعطي المتفرّجَ إحساس التجوّل في الغابة. تحلّق الكاميرا كنسرٍ فوق الغابة، فيشعر المتفرّج بأنه يملك المكان من دون أن يملّ، بفعل توالي لحظات التوتر والاسترخاء. هذا كلّه مشغول بحِرَفية عالية.

"ماوغلي" فيلمٌ تعرضه "نتفليكس"، التي تهدّد هوليوود. مقتبس من "كتاب الأدغال" (1894) لرديارد كيبلينغ. هو الكتاب القصصي الأكثر اقتباساً في السينما والتلفزيون والرسوم المتحركة. ماوغلي شخصية عجائبية من القرن الـ19 تدخل القرن الـ21 من بابه الواسع. ماوغلي أشهر من دون كيخوت، لأنه يخاطب الطفل المتواري فينا. خطاب يتغلغل في الوجدان، لأنه يملك قوة ذاتية ولا يحتاج إلى دعاية ومهرجانات. يُشار إلى أن آخر اقتباس لرواية "كتاب الأدغال" بالعنوان نفسه عائدٌ إلى عام 2016، أخرجه جون فافرو، وقد حقّق إيرادات دولية كبيرة، بلغت 966 مليونًا و550 ألفًا و600 دولار أميركي، مقابل 175 مليون دولار أميركي ميزانية الإنتاج.

يؤكّد نجاح الفيلم أن قصص الحيوانات، التي تقدِّم ميثولوجيا بدائية، لا تشيخ وإن شاخ مشاهدوها. قصص تشتغل على أرض سردية محروثة جيّدًا، شكّلت اللاوعي الحكائي للمتفرجين الذين سمعوا منذ الصغر حكايات الذئب والحمل والحمار والأسد والبغل الغدّار والجمل الهائج. تنجز هذه الحكايات مهمة تخليد الذاكرة الشعبية وحراستها، وهي زاخرة بالدروس. لذا، لا يتوقّف البشر عن التعلّم منها. حكايات شفهية عمرها مئات آلاف السنين، بينما عمر الكتابة لا يزيد على أربعة آلاف عام.
حكاية ماوغلي نموذج للقاء الطبيعة والثقافة وامتزاجهما. وأيضًا لقاء الإنسان والحيوان فيه وامتزاجهما.
 في اقتباس فافيرو، نجد هدنة على الماء، وظهور غربان قبل وصول العدو، وسجود للفيل الضخم، ونمر مذهَّب شرير يقع في النار، وآخر أسود طيّب وخدوم، يُغيث البطل عند هجوم النمر عليه لافتراسه. تشرب الحيوانات بفمها من النهر، بينما يُلقي الطفل دلوه ويجرّه بحبل فيشرب وهو جالس فوق صخرة. هذا هو الفرق بين شرب الطبيعة وشرب الثقافة. تصوير الغابة لا يُلغي تفوّق الثقافة على الطبيعة.
المقارنة بين اقتباسي 2016 و2018 تُظهر ما يلي: في الثاني، الإيقاع أسرع والشخصيات أعنف. هذا يضمن للمتفرّج عدم الشعور بفجوة بين واقعه وأجواء الفيلم، بل امتدادًا لواقعه. الطفل يحدِّد هويته بالذئبة التي أرضعته، بينما تعتبره الحيوانات الأخرى إنسانًا. يعاني ماوغلي تبعات الهوية المزدوجة: أإنسان هو، أم حيوان؟
هل هو حيوان؟ لا. إنه "همجي" أي "بلا ثقافة" ("الغرفة المضيئة"، رولان بارت). ماوغلي كائن ثقافي وسط الطبيعة. الفيلم قادر على شرح ما يُورَّث، وما يوجد فينا بحكم الإرث البيولوجي، وما يكتسبه المرء، أي الثقافة. لعلّ المتفرّجين ينتبهون إلى الذي يغلب على سلوكهم: الغريزة، أو ما يكتسبون من قيم؟ في الوقت نفسه، لعلّهم غير عارفين بهذه الأعماق الأنتروبولوجية، لكنهم يستشعرونها. فالطبيعة تُضفي على الخيال إمكانيات أكبر من إمكانيات الحياة الواقعية، بحسب ستانيسلافسكي.

المساهمون