كيف تعمل الأغنية؟ بوب ديلان ضدّ صوته

كيف تعمل الأغنية؟ بوب ديلان ضدّ صوته

10 يونيو 2019
هناك الكثيرون بيننا يشعرون بأن الحياة ليست إلا مزحة(Getty)
+ الخط -
ما زالت الأبحاث والمقالات مستمرة بعد صدمة عام 2016، حين حصل المغنّي الأميركي، بوب ديلان، على جائزة نوبل للآداب، لأنه "خلق تعابير شعريّة جديدة ضمن تقاليد الأغنيّة الأميركيّة". الكثير من الانتقادات وُجّهت للجائزة، سواء في ما يتعلق بالنوع الأدبيّ وخصائص "الأدبيّة"، أو الرسالة السياسيّة وراء اختيار ديلان، بوصفه يسارياً من جيل الستينيات الثائر، الذي، منطقياً، هو جيل معارض لدونالد ترامب، لتبدو الجائزة أشبه بدعوة إلى استعادة روح تلك اللحظة التاريخيّة و"صوتها" الثائر.

لنفترض أن ديلان "عبقريّ"، وأن الجائزة حولت الأغنيّة إلى عمل أدبيّ، علماً أن سبب الجائزة كان "التعابير الشعريّة"، ضمن تقليد غنائيّ خصوصيّ، تقضي عليه الترجمة -بعكس الرواية مثلاً-، ولا "يتذوق" الجميع جمالياته. لكن، لننظر إلى الجائزة كفرصة لإعادة التفكير في "الأدب"، وعلاقتنا به، والأثر الذي يتركه فينا، والأهم سؤال: ما هو "الأدب"؟ تدفعنا الجائزة لنسائل أدوات قراءة الأدب نفسه، وجدواها، وقدرتها على "تذوق" أو "تفكيك" الأغنيّة، وهل فعلاً تمكن قراءة الأغنيّة كـ "أدب"؟ علماً أن الأدوات السابقة قاصرة عن الإحاطة بكافة عناصر الأغنيّة الجماليّة، أو حتى مكوناتها البسيطة -الكلام، الموسيقى، الأداء- لأننا أمام عوامل أخرى تتدخل في صناعة الأغنيّة (التسجيل، نوعية الأدوات الموسيقيّة، التكرار... إلخ.). هذه التساؤلات وأكثر، نقرأها في الكتاب الصادر حديثاً بعنوان "شعريات بوب ديلان: كيف تعمل الأغنية؟".

يوظف المؤرخ ومؤلف الكتاب، تيموثي هامبتون، الأدوات الشعريّة والثقافيّة لفهم الأغنيّة وأدبياتها، ويعتمد على مُجمل أعمال ديلان المسجّلة -لا الحيّة- لمحاولة تحديد خصائصها الجماليّة، سواء على مستوى الكلمات، أو التقليد الموسيقي الذي يجعل من الأغنيّة نوعاً مستقلاً، يحرك المشاعر ويترك أثراً في العالم.

سنحاول في قراءتنا للكتاب جعل هذه "الشعريات" أشبه بدليل مفاهيمي لأغنيّة مستحيلة، غير موجودة. أغنيّة تتوزع خصائصها على نتاج ديلان بأكمله، كأنها أشبه بترياق سحري قطراته موزّعة من دون أن يكون في عبوة واحدة، كأننا أمام قائمة مستحيلة لا توجد سوى هنا أثناء قراءتها.

تعدد الأصوات
تحمل الأغنيّة في طياتها "ثخانة"، بوصفها مجموعة من الطبقات التي تنقل التجارب الشخصية والجمعيّة، تلك التي تتحرك ضمن الشكل الغنائي وتتعرف عليه وتحاوره. الأهم أن هذا الشكل، يحيلنا إلى أصوات أخرى لفظاً ونغماً، لنكون أمام حوار متعدد الأصوات، تتداخل فيه العوالم الذاتيّة والموضوعيّة، الماضية والآنية ضمن أسلوب جماليّ ما، لنرى أنفسنا أمام أجزاء لغويّة وموسيقيّة تجتمع ضمن الأغنية.
ملامح هذا التعدد نراه في أغنية like a rolling stone، التي سجلها ديلان عام 1965. تستعيد الأغنية موضوعات الموسيقى الشعبيّة وموسيقى البلوز، بل إن عنوانها يحيلنا إلى أغنية البلوز الشهيرة Rollin' Stone لمادي ووترز (سُجّلت في الخمسينيات). كما أن الألبوم الذي يحوي الأغنيّة Highway 61 Revisited ليس إلا صدى لجيل البِت في الخمسينيات، وخصوصاً الكاتب الشهير جاك كيرواك وروايته on the road ونوفيلا بعنوان The Subterraneans.


مع الريح
الأغنية كشكل، تقليدٌ نستطيع تمييزه، ولو بصورة شديدة الرومانسيّة، هي موجودة من حولنا، لا بد من ضبطها والتقاطها. هي مجموعة من الأشكال المألوفة أو غير المألوفة التي "نتذوقها". هذا التقليد تدركه الأغنية، وفي ذات الوقت تختلف عنه. هي تعيد أصوات موسيقى قديمة، وأصواتاً من العالم، تلك التي تضبط إيقاعه أو تتحرك ضمنه، و"تنغّمها"، والأهم، هناك "الصوت الشخصي"؛ أي صوت المؤدي نفسه الذي يختزل كل ما سبق، سواء بحنجرته أو آلته، فصوته هو حضوره في العالم لحظة الغناء، أو لحظة الاستماع.
هذا الانسجام مع التقليد نراه في العديد من أغاني ديلان؛ فأغنيته الشهيرة blowing in the wind مستوحاة من لحن من أغنية تعود للحرب الأهليّة الأميركيّة بعنوان No More Auction Block، والتي كان يغنيها العبيد، ثم الجنود السود الذين ذهبوا للحرب كأحرار. كذلك نكتشف أن أغنية ديلان "song to woody"، تستند إلى لحن أغنيّة 1913 Massacre، وكأن موسيقى ديلان تحاور موسيقى أقدم، وتخاطبها بصوته وكلماته المعاصرة.


ليست إلا مزحة
تختزل الأغنية التقاليد الأدبيّة، تلك الأشكال التي تكسب المضمون شرعيته، فهناك الحوار، التقليد الفلسفي والشعري لبناء الحجة وضدها، وهناك الاعتراف، سواء أمام ذوي السلطة أو الاعتراف الذاتي، وهناك التراسل وأشكاله المختلفة، والنبوءة ورؤيتها للمستقبل، لتأتي الأغنيّة شكلاً من أشكال التعبير الشعريّ والرمزيّ لالتقاط ملامح عالم أو وعد لا بدّ أن يتحقق. تعدد الأشكال التي تستطيع الأغنية اكتسابها يجعلها في حوار مع التقليد الأدبي، بل وعودة إلى جذوره الشعريّة وأشكال الفن الأولى، هي قادرة على تبنيّ الأشكال الأدبيّة وجمالياتها، لتعيد إنتاجها "الآن"، في لحظة الغناء، وهذا ما نسمعه في أغنية ديلان all along the watchtower؛ إذ يدور حوار بين مهرج ولص، ويمكن أن نعيد قراءة كلماتها بالشكل الآتي:
"لا بدّ من طريقة للخروج من هنا" يقول المهرج للص، ويتابع: "هناك الكثير من اللبس، لا يمكن أن أرتاح، رجال الأعمال يشربون نبيذي...". "لا داعي للحماس"، يجيب اللص بلطف، مضيفاً: "هناك الكثيرون بيننا هنا، يشعرون بأن الحياة ليست إلا مزحة..".


الآن
تسعى الأغنيّة إلى أن تكون معاصرة، وتأخذ مسافة من "الآن"، في ذات الوقت هي تحضر ضمنه، تشير إلى ما فيه من قضايا، تتبناها وتأخذ موقفاً منها. هذه المعاصرة ترتبط بالقدرة على الإشارة، ليظهر المغنّي مقتبساً ماهراً، صوته وكلماته خزان نستمع فيه إلى صدى أزمان أخرى وأصوات أخرى. هو يعي الزمن/التاريخ وإيقاعه وقضاياه ومكوناته، فالأغنيّة موقف من "الموضة" و"الرائج" إذ تسائله و تحاوره، القديم والجديد يتداخلان ويتحاوران، والأهم أن الأغنيّة تشير إلى نفسها، وزمنها والزمن الفنيّ ومغنّيها. هذا ما يقوله ديلان نفسه عن كلمات أغنياته، إذ كان يزور المكتبة، ويقرأ الصحف التي تعود للقرن التاسع عشر ويقتبس من عباراتها وأساليبها التعبيريّة.

يستعيد ديلان لغة تاريخية وقطعاً صغيرة منها، وأحياناً يتبنّى صيغة ملحميّة أو وعظية مستمدة من العظات في الكنيسة كعبارة: "رأيت رضيعاً تحيط به ذئاب بريّة"، لتتلوها عبارة: "رأيت طريقاً سريعاً من الألماس ولا أحد عليه"، لتأتي أغنية A Hard Rain's A Gonna Fall كصوت من الماضي يشير إلى الآن.


الأنا
الأنا التي تغنيّ متفردة، تسعى إلى الأصالة، وفي ذات الوقت تحاور التقليد الغنائيّ، وتعي مكانها ضمنه وأثرها فيه. أما الحكاية التي تغنيّها؛ فهي جزء من عمليّة اكتشاف الذات وتقديمها، لتصبح الأغنيّة خشبة تظهر عليها الأنا، تسأل وتجيب، تتحدى نفسها وحكاياتها، تكتشف مشاعرها وما هو دفين فيها، هي الصوت الذي يُحذف وراءه المكتوب، إذ تقتبس الأغنيّة من الأنا وتراجعها، سواء كانت أنا متخيّلة أو حقيقيّة، هي أنا تسأل نفسها: لم أغنيّ؟ لتبدو الأغنيّة رؤيا، تخفي وراءها حقيقة ما، تبدأ من التجربة اليوميّة وتنتقل إلى الماورائي، حد التجريد، هذا التجريد يصل إلى مساءلة الشكل الغنائيّ والأنا نفسها، لتنفصل الكلمات عن معانيها، كون الأنا التي تنطقها تشكك بذاتها، بأسلوب متأخر، يراجع التاريخ إلى لحظة الغناء ذاتها.
تتيح الأغنيّة أيضاً تعدد الهويات، وكأن الأنا تصبح آخرين كثيرين، تُخاطبهم وتبحث عنهم وتبحث عن يقينها، هذا الاكتشاف وليد مراقبة الذات والوعي بها، العمليّة التي يتداخل فيها المنطق مع الهلوسة، الوعي مع الحلم، لتكتشف الأنا نقصها، ذاك الذي لا يظهر، الذي تغطي عليه الحواس إثر ميلها نحو الاكتمال وإخفاء العيوب، هذا الاكتشاف يغير من نظرة "الأنا" لذاتها، وتاريخها وحكاياتها السابقة.
هذه المقاربة شديدة النظريّة نراها في أغنية ديلان Blowin' In The Wind، التي يطرح فيها أسئلة على ذاته وعلى العالم وعلى تاريخه الشخصيّ، فـ"الرجل" و"النهر" و"الناس" الذين يسأل عنهم ديلان هم نفسه المتحولة، هم أناه المتعددة والمتحركة، والآخر "الصديق" هو ديلان نفسه أيضاً، يتحرك بين السائل والمجيب، بين الأغنية وصداها.

دلالات

المساهمون