زاهر خليفة: عود دمشقي بأخشاب ألمانية

زاهر خليفة: عود دمشقي بأخشاب ألمانية

05 نوفمبر 2019
صنع أول عود وعمره22 عاما (العربي الجديد)
+ الخط -
من نحو عشر سنوات، برز اسم زاهر خليفة، باعتباره أحد صنّاع آلة العود السوريين المتميزين، الذين يحرصون على إنتاج آلة ترضي العازف والفنان في رنينها ومظهرها، لا سيما بعد أن شهدت هذه الصناعة في سورية تراجعاً كبيراً، لحساب التصنيع التجاري، ومصانع إنتاج الآلات المستنسخة، التي يدرك الخبير من نظرة واحدة أنها لم تنل من الجهد والإتقان والدقة ما يجب أن يبذل عند بناء أهم آلات التخت الشرقي. فلا عزف جيداً إلا بآلة جيدة، وجودة الآلة مرهون بوجود الصانع المتقن المتأنق، الذي يهب الأخشاب من نفسه وروحه ووقته وجهده منذ لحظة البدء باختيار التصميم، والشروع في بناء الصندوق الصوتي، إلى لحظة الميلاد وشد الأوتار وسماع الرنين الأول. 

لكن الأحداث في سورية كان لها أثرها الكبير على مسيرة زاهر الفنية. صمد نحو ثلاث سنوات، ثم اضطر إلى الهجرة إلى ألمانيا، ليبدأ مرحلة جديدة مع صناعة العود في ظروف غير معتادة، وتحديات قرّر مواجهتها ليستمر مشروعه وتتواصل تجاربه، التي تستهدف إنتاج آلة تجمع بين الشكل والمضمون، وتذكر بما كان عليه كبار الصناع في بلاد الشام، من دون الانحباس الكامل في ما أبدعوه.

إنتاج مبكر
بدأ زاهر خليفة تعلم صناعة العود وهو طفل صغير في ورشة عائلته التي احترفت هذه الصناعة أباً عن جد. يقول إنه أنتج أول عود احترافي حمل اسمه عام 2007، ولم يتجاوز عمره 22 عاماً. يضيف: "تعلمت المهنة علي يد والدي وأعمامي في ورشتنا. دخلت كل ورش دمشق واطلعت على أكثر من أسلوب وطريقة في التصنيع، وكان لورشة العائلة دور كبير في تأمين المناخ المناسب للصناعة. ومن خلال وجودي في الورشة، اخترت لنفسي مسارا خاصا، يبتعد عن التصنيع التجاري، ويتعامل مع بناء الآلة باعتباره فناً موازياً للعزف عليها. نظرتي للعود الشامي ووجود أكثر من ورشة في منطقتنا بحي جوبر الدمشقي كان له تأثير كبير، وكان لوالدي وعمي دور مهم في توجيهي وتعليمي، حتى سيطر على تفكيري هدف رئيس هو المحافظة على صناعة العود الشامي، واستلهام تراث الرواد الأوائل لهذا الفن".

يوضح زاهر الفروق بين آلة العود "التجارية" وبين غيرها من الأعواد الاحترافية: "الأعواد التجارية تصنع في الغالب من خامات رخيصة جداً، وقد تكون من أخشاب غير متوافقة، كما أنها تنتج بسرعة شديدة، لأن صانعها لا يستهدف منها إلا الربح فقط، وأرباحه مرهونة بعدد ما ينتجه ويبيعه من آلات، كما أن كل عود منها يمر على عدد من الأيدي العاملة، فالقصعة تبنى في ورشة، والسطحة تجهز في أخرى، والبنجق (بيت المفاتيح) يصنع منفرداً، ثم يتولى آخر عملية التجميع، وربما قام بها أكثر من حرفي، ثم يدخل العود مرحلة التشطيب والدهان، وتشد عليه أوتار رديئة. هذا النوع من الأعواد لا يستغرق بناؤه أكثر من 48 ساعة، ومع زيادة الأيدي العاملة قد تنتج الورشة أو المصنع عشرة أعواد أو عشرين عوداً في اليوم، ومع الوقت وتغير درجات الحرارة تظهر عيوب التصنيع والاستعجال. أما آلة العود الاحترافية، فهي عمل فني متكامل، يبدأ من اختيار الأخشاب المناسبة بعناية، وبناء القصعة وفق تصور مدروس، ومراعاة الدقة في القياسات، وسمك السطحة، وأسلوب التجسير، وصولاً إلى الزخرفة والتصديف وتنميق القمريات. كل هذه المراحل يقوم بها صانع واحد، ليخرج العود بهيئة تعكس تفكير الصانع وأسلوبه. وغالبا ما ينتج صانع هذا النوع من الأعواد آلة أو آلتين فقط طوال شهر كامل. وهنا يكون الربح جزءا من أهداف هذه العملية الفنية، وليس غرضا أساسيا وحيدا".

يميل زاهر خليفة إلى آراء بعض المتخصصين الذين يرفضون قولبة آلة العود وتنميطها من خلال توحيد القياسات، أو الاتفاق على طريقة واحدة لبناء القصعة أو تركيب الزند. فقدامى الصناع الذين برزوا خلال القرنين الماضيين في سورية ومصر أنتجوا أعواداً بالغة الإتقان والجمال والصفاء الصوتي، رغم اختلاف أنواع الأخشاب التي استخدموها، والقياسات التي اعتمدوها. طبيعة العود الذي يمثل عنوان الكلاسيكية الآلية في عزف الموسيقى الشرقية لا تعرف هذه القولبة. لكن لا مانع -برأي زاهر- من تنظيم حلقات النقاش وورش العمل لتبادل الخبرات بين الصناع، وللانتفاع بالدراسات ذات الطابع الأكاديمي، من دون مصادرة على البصمة الشخصية لكل صانع، لأن فن صناعة العود في حقيقته فن فردي، يعكس بدرجة كبيرة رؤية الصانع وإبداعه.



حديث العود وصناعته يستدعي إلى الذهن ظاهرة آخذة في الاتساع، تتمثل في حرص العازفين المحترفين وبعض الباحثين والأكاديميين على اقتناء الأعواد القديمة، التي بناها كبار الصناع في مصر والشام، رغم ندرتها، وارتفاع أسعارها، لا لمتانتها وجمال زخارفها أو كونها "تحفة عتيقة" فقط، وإنما لأن هذه الأعواد تعطي رنيناً صافياً، وصوتاً يغلب عليه الدفء الشرقي الذي يبحث عنه كل عازف، ويهواه كل مستمع.

ما السر في تفوق أعواد القدماء؟ نسأل خليفة. يجيب: "من النظرة الأولى للأعواد التي وصلتنا من صناعة "المعلمين الكبار" أمثال آل النحات في سورية، أو إبراهيم خليل الجوهري وعبد العزيز الليثي في مصر، نتأكد أن جهداً كبيراً بُذل لإنتاج آلة تتسم بمتانة فائقة، وجمال خارجي أخاذ، وصوت صاف متوازن. أعتقد أن أكثر هؤلاء الصناع، امتلك معادلة دقيقة للقياسات والتجسير، مع خبرة في اختيار الأخشاب، لا من حيث نوعها فحسب، كأن تكون من الجوز أو البليساندر أو الماهوجني أو البلوط أو السيسيم. ولكن أيضاً من حيث عمر الأخشاب، ومدى جفافها، وطرائق التجفيف، وأظن أن مرور مئة سنة أو أكثر أو أقل على آلة صنعت بإتقان يساهم في تحسين صوتها واستخراج رنين مشبع من أوتارها".


من سورية إلى ألمانيا
ألقت الحرب في سورية بظلال قاتمة على صناعة العود. ويقول زاهر إن الصناع السوريين واجهوا صعوبات في توفير المواد الخام اللازمة للصناعة من أوتار وأخشاب، كما تفاقمت مشكلات الشحن إلى مختلف دول العالم، فصانع الأعواد الفنية الاحترافية مرتفعة السعر لا يستغني عن الأسواق الخارجية. يضيف زاهر: "تعامل معي عدد كبير من العازفين، من دول عربية وأجنبية، وأرسلت أعوادي إلى فلسطين المحتلة ومصر وكل دول الخليج العربي، واليمن، ومعظم دول أوروبا، وأميركا، وأستراليا، وكندا، وماليزيا. لكن سوء الأوضاع السياسية والأمنية اضطرني إلى الهجرة".

يتابع: "وبعد رحلة شاقة، وصلت إلى بريمن في ألمانيا، لأبدأ في مواجهة صعوبات جديدة، منها إجراءات تأسيس ورشة وتجهيزها بالمعدات اللازمة، وإشكالات اللغة، والحركة والتنقل في بلد جديد، كما شكّل المناخ البارد وارتفاع مستويات الرطوبة تحدياً كبيراً، لأنه يستلزم تجهيزات إضافية لحفظ الأخشاب وتخزينها، وحماية الآلة أثناء البناء وبعده. وبالطبع شرعت في التواصل مع صناع الآلات الموسيقية في ألمانيا، وزرت صناع التشيلو واللوت في مدن مختلفة".

يضيف زاهر: "من العقبات التي فاجأتني هنا ارتفاع تكاليف صنع العود كثيرا، سواء في أثمان الأخشاب أو تكاليف الشحن، ما يحتم زيادة كبيرة في سعر الآلة. والصانع إن لم تتوفر له أسواق جيدة، مع قدرة على إنتاج آلة بسعر مقبول، لا يستطيع الاعتماد على المهنة باعتبارها مصدرا وحيدا للدخل".

لكن رغم العقبات، فإن زاهر يرى أن الإقامة في ألمانيا لها إيجابياتها، ومنها سهولة التسوق وشراء أي نوع من الأخشاب أو الأوتار أو مواد الزخرفة، وكذلك التشجيع والتقدير من قبل السلطات، والاحترام المجتمعي الكبير لصانع الآلة الموسيقية، وبما يختلف كثيرا عن عالمنا العربي؛ حيث الصانع مجرد حرفي، يمارس نشاطا على هامش الاهتمام الشعبي.

منذ أن انطلق زاهر خليفة في رحلته الفنية مع تصنيع آلة العود، لم يتوقف عن التجريب، والنظر في أعواد الصناع الكبار من القدماء، وفي مقدمتهم آل النحات، الذين حفروا لأسرتهم اسما خالدا في تاريخ هذه الصناعة منذ نحو قرن ونصف. أفاد زاهر من تصاميمهم وأساليب زخارفهم، ودرس طرائقهم في تجسير سطحة العود، وحاكى أحيانا بعض نماذجهم المهمة والمشتهرة. يرى زاهر أن "المعلم" عبده النحات هو أهم صانع في تاريخ سورية والعالم العربي، فأعواده ما زالت تدل على عبقريته رغم مرور أكثر من قرن على إنتاجها.
شارك زاهر في عدة مؤتمرات ومهرجانات خاصة بآلة العود، في مقدمتها مهرجان كتارا في الدوحة، وشارك في أكثر من ورشة عمل عن تصنيع الآلة في العاصمة الألمانية برلين ومدينة كندر كيزي، وحضر المعرض السنوي العالمي للآلات الموسيقية في مدينة فرانكفورت، كما زار صناع الأعواد في مصر وتركيا، واطلع على أساليبهم في بناء الآلة، وأيضا التقى ممثلي بعض شركات إنتاج أوتار العود، ومنها شركات إيطالية وألمانية وأميركية.. ليراكم خبرة يراها ضرورية لكل من يتصدى لصناعة العود باعتباره عملا فنيا، لا نشاطا تجاريًا.

المساهمون