فرنسا: وحده الزواج من فرنسيين يذوّب المهاجرين

فرنسا: وحده الزواج من فرنسيين يذوّب المهاجرين

04 اغسطس 2015
المجتمع الفرنسي يعرف تنوّعاً بشرياً كبيراً بسبب الزواج المختلط(Getty)
+ الخط -
الفرق كبيرٌ ما بين فئات من المهاجرين العرب الأوائل الذين جاؤوا من أجل بناء فرنسا عقب الحرب الكونية الثانية، الذين كانوا يتصوّرون عودة سريعة إلى بلادهم، بعد سنوات، ثم وجدوا أنفسهم مُنهَكين يَشيخون في ملاجئ ومآوٍ ينتظرون نهايتهم، وبين من اكتشف، منذ البداية، أن الاستقرار في فرنسا لن يكون قصيراً، وقرّر إحضار العائلة حتى يكون المقام أقل إيلاماً والغربة أقل قسوة.

من المؤكد أن الجيل الأول من المهاجرين لم يكن يضع في الحسبان أن أبناءه سَيَشبّون عن الطوق، وبالتالي سيتوجهون لا محالة نحو الاندماج وأحياناً نحو الذوبان، ليس من دون صدمات وصعوبات، كما هو حال الكثير من الجماعات التي وصلت قبله، من إيطاليين وأرمن وغيرهم، ثم لاحقاً إسبانيين وبرتغاليين. هي سُنّة الحياة وضريبة تقاسُم وطن واحد ومجتمع واحد.

الاندماج قطع شوطاً كبيراً لم يكن من السهل تصوُّره، وهذه النتائج على الأرض، لمن يزعمُ أن العرب والمسلمين لا يندمجون في هذه الأرض، فها هي ابنة الرئيس الراحل فرانسوا ميتران مازارين تتزوج مغربياً، محمد أولاد موحند وتنجب منه، والوزيرة نجاة فالو بلقاسم تزوجت فرنسياً غير عربي ومسلم، كما أن الوزير السابق إيريك بيسون تزوج تونسية (ياسمين ترجمان) والزعيم السياسي اليميني فرانسوا كوبي تزوج من جزائرية (نادية)، في حين أن دومينيك شتروس ـ كان، الرئيس السابق لصندوق النقد الدولي، تزوّج من مغربية (مريم العوفير). وهي أمثلة فقط، لأن مسار الاندماج ماضٍ ولن يوقفه أيّ عائق، مهما كان.

اقرأ أيضاً: نانسي عجرم تفتح النار على السياسيين:يريدون تهجيرنا...يا عيب الشوم

يشير تحقيق فرنسي حمل اسم (مسارات وأصول) أجري بين 2008 ـ 2009، إلى أن 44 في المئة من المتحدرين من مهاجرين ذكور من أصول جزائرية أو مغربية، لهم شريكٌ أجنبي ليس مهاجراً وليس متحدراً من الهجرة. والنسبة ترتفع إلى 60 في المائة عند ذوي الأصول التونسية و42 في المائة من ذوي الأصول التركية، وتصعد النسبة إلى 65 في المائة لدى المتحدرين من أصول صحراوية (وفي هذه الحالة لا يمكن التمييز بينهم أهم من المسلمين أم غير المسلمين).

وبالنسبة للنساء، تنخفض النِّسَبُ، وهو أمر له علاقة بالثقافات الأبوية، ولكن مستوياتها، مع ذلك، تظلّ مرتفعة، 41 في المئة لدى من لهنّ أصول جزائرية و34 في المئة لدى من لهنّ أصولٌ مغربية و38 في المئة لدى من لهنّ أصولٌ تونسية، وترتفع النسبة إلى 49 في المئة لدى المتحدرات من الصحراء والساحل. وتنخفض النسبة بشكل كبير لدى النساء التركيات حيث تصل إلى 7 في المائة.

ضد الانزواء الجماعاتي
كل التحقيقات والأبحاث والإحصاءات، التي تجريها معاهد فرنسية رصينة، تشير إلى أن مسار الذوبان في المجتمع الفرنسي على قدم وساق، لولا الركود الاقتصادي الذي يخفف أحياناً من إيقاعه، ففي لحظات الأزمات تعود الجماعات إلى بعض الانطواء (32 ألف زواج مختلط سنة 2012 بعد أن وصل الرقم إلى 44 ألف زواج سنة 2002). وهذه الحقائق والأرقام تُكذب كل المزاعم والمحاكمات والإدانات الأيديولوجية التي تعرّض لها، ولا يزال، الشباب من أصول عربية وإسلامية، والتي تجعل من الضروري ومن المستعجل التساؤل إن كان هؤلاء الشباب يذوبون في المجتمع، بصفة بطيئة، كما يقول ويكتب من لا يتوقف عن محاكمتهم.

اقرأ أيضاً: كيف بدأت الهجرة الأولى في العالم؟

يُورد المفكر والديموغرافي الفرنسي إيمانويل تود في كتابه الأخير: "من هو شارلي؟" (2015)، في معرض البرهنة على اندماج العرب والمسلمين في المجتمع الفرنسي، كيف أن الكثير من الصحافيين والكُتّاب والمفكرين الفرنسيين يلومون مسلمي فرنسا على عدم اندماجهم في المجتمع وعلى بقائهم في إطار المجموعة العرقية والإثنية والدينية الأصلية (كالصحافي إيريك زمور، الذي يتذمر كثيراً لأن العرب والمسلمين لا يتخذون لهم أسماء لاتينية بشكل كبير، والمفكر آلان فينكلكروت).

في حين أن إيريك زمور نفسه، وهو من أصول يهودية جزائرية تزوّج من يهودية جزائرية، ونفس الشيء ينطبق على آلان فينكلكروت (من أصول يهودية بولونية)، الذي لا يُفوّت أيَّ فرصة لاكتشاف البُعد "العربي" أو "الأسود" لمشاكلنا الاجتماعية... ويلخص إيمانويل تود الأمر بهذه الجملة البالغة الدلالة: "إن قاضي التفتيش الكبير إيريك زمور أقلُّ ذوباناً في المجتمع الفرنسي من نصف الشباب ذوي الأصول الجزائرية الذين يعيشون زيجات مختلطة".

وإذا استثنينا سويسرا، البلد الذي يعتبر 23 في المائة من سكانه من الأجانب، والذي يشهد أعلى نسبة زواج مختلط، 21 في المائة، فإن فرنسا تأتي الأولى أوروبياً في الزيجات المختلطة ثم تليها إسبانيا فإيطاليا ثم ألمانيا فبريطانيا.

وهكذا فأكثر من زواج من بين كل سبع زيجات في فرنسا يكون أحدها مختلطاً (أحد الطرفين من جنسية أجنبية). وتشير إحصاءات "المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية" الرصينة إلى أنّ نصف الزيجات المختلطة في فرنسا تتمّ بين رجل أو امرأة فرنسيين وامرأة أو رجل من شمال أفريقيا (المغرب العربي). وهذه الإحصاءات تكذّب بشكل قاطع من يلوم العرب والمسلمين في فرنسا على انطوائهم الهوياتي وعلى تفضيلهم للانزواء الجماعاتي.

خوف من الاندماج
وإذا كنا نعترف بأن الوجود العربي الإسلامي في فرنسا لا يزال إشكالياً، فمعنى هذا أن العرب المسلمين موضع لوم دائم. فإذا كان زمور وفينكلكروت يلومان العرب والمسلمين على انعزالهم، فإن أطرافاً أخرى لا تخفي أن اندماج المسلمين يخلق مشكلة، لأنه ببساطة يهدد بأسلمة البلد. وهذا ما يقوله موقع دروز (dreuz.info)، حين نقرأ: "لا أحد في مدن فيرنون وإيفرو أو فال ـ دي ـ رويْ غابت عنه الظاهرة. لكن الواقع موجودٌ هنا. فالزيجات المختلطة في ازدياد، والمرأة، المسيحية في غالب الأحيان، هي من يعتنق الإسلام...".

اقرأ أيضاً: بالصور: شاب يوثّق رحلة "الهجرة غير الشرعية" إلى إسبانيا

نسأل الباحث والأكاديمي حسن مصدق عن الظاهرة، فيقول لنا إن الزواج المختلط مسألة عادية في مجتمع ديمقراطي، فهو مسألة شخصية، والحب لا يستشير أحداً. ثم إنه دليل عافية ودليل على المُواطنة الحقيقية في مجتمع علماني، حيث إن الديانة مسألة شخصية. ويضرب لنا مثلاً عن زوجيّ شهير في فرنسا (عائلة ليفي): زوج يهودي غير متديّن وزوجته جزائرية غير متدينة وبنتاهما محجبتان.

وحين نسأله عن المشاكل التي يتعرض لها من يسير في هذا النوع من العلاقات، يقول لنا الدكتور حسن مصدق: "إن كل العائلات، مهما كانت مختلطة أو غير مختلطة، تعرف مشاكل الزواج والطلاق الذي تتزايد معدلاته بشكل رهيب، ليس حكراً على الزيجات المختلطة".
ثمة ميل سهل لاستحضار الاختلافات الثقافية والدينية في مثل هذه الزيجات، ولكن الدكتور حسن مصدق لا يرى الأمر من هذه الزاوية: "اللغة عامل أساسي في الأمر، وهؤلاء الشباب، من الجيل الثاني والثالث، المتحدرون من الهجرة، لا يعرفون لغة غير اللغة الفرنسية، هي لغتهم الأم. تتحدث عن الثقافة، وجميع الشباب يتقاسَم نفس الثقافة في فرنسا".

يستحضر الدكتور مصدق الرموز في فرنسا ويتحدث عن أهميتها: "لا يجب أن ننظر إلى مثال الوزيرة نجاة فالو بلقاسم، باعتبارها حالة فريدة في فرنسا، بل على العكس إنه مثال يشجع على الاندماج في هذا المجتمع. ولا أحد يكترث لبعض الحاقدين من اليمين الذين حين يريدون انتقاد الوزيرة على إصلاحاتها يسحبون اسم زوجها الفرنسي (فالو)، ويكتفون باسم والدها (بلقاسم)".

اقرأ أيضاً: "أنا لاجئ".. أسبوع أفلام يوثق للنكبة في غزة

المساهمون