عشوائية الرقابة اللبنانية وأفعالها المتناقضة

عشوائية الرقابة اللبنانية وأفعالها المتناقضة

26 مارس 2018
رنا عيد (فيسبوك)
+ الخط -
للرقابة اللبنانية على المُصنّفات الفنية أفعالٌ مثيرة للدهشة، رغم أن كثيرين معتادون على عدم الاندهاش منها. قرارات عشوائية تؤذي اشتغالات سينمائية، تلتزم أحوال بيئات ومجتمعات وأناس، لتروي حكايات ماضٍ معلَّق، وراهن مشبع بالتخبّط والألم والانكسار. قرارات عشوائية "تُحصِّن" فعلاً مُدانًا، أخلاقيًا واجتماعيًا وسياسيًا وقانونيًا، و"تمنع" عملاً يعكس حقائق ويروي وقائع يُراد لها كلّها التغييب والنسيان.

المأزق حاضرٌ منذ سنين طويلة. القانون اللبناني الخاصّ بالرقابة قديمٌ للغاية (27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947)، لكن "تنفيذه" منبثق من راهنٍ خاضعٍ لتوافقات سياسية وطائفية ـ مذهبية، تُشكِّل نظامًا متكاملاً يتحكّم بالبلد، وبأحوال ناسه. "جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية" تابعٌ لـ"المديرية العامة للأمن العام" (جهاز أمني)، والسلطة اللبنانية تُنشئ لجنة رقابية أخرى (ممثلو وزارات وطوائف وأجهزة أمنية)، بدلاً من ابتكار قوانين حديثة، تلائم تطوّرات العصر، وتحمي الإبداع ومنجزاته وصانعيه، وتحصِّن الجميع من العشوائية والفذلكة والخطوات الناقصة والمرتجلة.

أفعال الرقابة اللبنانية غير منتهية. آخرها متمثّل بإحالة "واجب" (2017) للفلسطينية آن ـ ماري جاسر إلى وزارة الداخلية والبلديات، للبتّ في مسألة عرضه اللبناني، بـ"توصيةٍ بالمنع" يُطالب بها جهاز الرقابة التابع لـ"الأمن العام"؛ وبالطلب من اللبنانية رنا عيد اقتطاع جملة من فيلمها الوثائقي الأول "بانوبتك" (2017)، تقول إن "موجودين خلف القضبان (أي مسجونين)" لم تصدر أحكامٌ بحقّهم". رفض المخرجة اقتطاع الجملة يُقابله منع الأمن العام السماح بعرضه اللبناني.

هذا غير جديد. هناك أفلام عديدة "ممنوع عرضها" في لبنان بأي شكلٍ من الأشكال (عروض تجارية، مشاركة في مهرجانات محلية، احتفال ثقافي، عرض داخل الجامعات، إلخ.). الأسباب متنوّعة، لكنها تنصبّ في عناوين مُكرَّرة: الإخلال بالأمن، تهديد "السلم الأهليّ"، الإساءة إلى طوائف أو جماعات، التعدّي على الدولة، الدعوة إلى التطبيع مع العدو الصهيوني، إلخ. المأزق كامنٌ في أن "الاتّهامات" هذه منتفية كلّيًا في أفلامٍ تروي شيئًا من أحوال بلدٍ مُقيم في أسئلته المعلّقة، أي في خرابه اليومي، لأن مسؤولين ـ رسميين وغير رسميين ـ يرفضون فتح الذاكرة، وطرح المواضيع، والسعي إلى مصالحة حقيقية مع الذات والآخر. بينما الأفلام "الممنوعة" تحرّض على التمسّك بحقّ المعرفة والاطلاع، وبحقّ القول والتعبير، وبحقّ مناقشة الأسئلة اللبنانية المعلّقة، وفتح ملفات الذاكرة، لتبيان مكامن الخلل، والسعي إلى التئام الجراح، أو بعضها على الأقل.

أما "واجب"، فيكشف وقائع العيش اليومي في الناصرة الفلسطينية، الخاضعة لاحتلالٍ إسرائيلي منذ عام 1948، بلغة بسيطة وهادئة وحقيقية وواقعية، ويعكس شيئًا من مفردات العلاقة القائمة بين ابن البلدة والمحتَلّ؛ فإذا بالرقيب اللبناني يعتبره "دعوةً" إلى التطبيع.
بينما يُكرَّم زياد دويري، الذي يتباهى بتصوير جزء كبير من "الصدمة" (2012) في تل أبيب، باسم لبنان، داخل البلد وخارجه.

عشوائية مؤذية، في بلد العشوائيات الكثيرة.

المساهمون