غييوم سونيز ومآزق العمّال: ارتباكات مجتمع وعائلة

غييوم سونيز ومآزق العمّال: ارتباكات مجتمع وعائلة

02 يناير 2019
"معاركنا" لغييوم سونيز: من أجل الآخرين (فيسبوك)
+ الخط -
ينتمي "معاركنا"، للفرنسي غييوم سونيز ـ المعروض في "أسبوع النقد"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي ـ إلى الدراما الاجتماعية، لتناوله عوامل عديدة مؤثّرة في التكوين الاجتماعي الأسري عامة، في الطبقة المتوسطة في أوروبا. 

السيناريو (سونيز نفسه) درسٌ في تعلّم كيفية تطوير سيناريو وحوار فيلم درامي عائلي ورسم شخصياته، خصوصًا الأطفال، ووضع الجمل الحوارية المناسبة على ألسنتها، وتطوير الخيوط الرئيسية والقصص الفرعية، لإبداع فيلم مشوّق من بدايته إلى نهايته. كما أنه مشحون بمُفردات سياسية ونفسية واجتماعية كثيرة، تأتي كلّها في صلب الموضوع الرئيسي، فلا يشعر المُشاهد بأن هناك إقحامًا لقصة أو خيط أو شخصية، وما من افتعال في أداء الممثلين جميعهم، إلى درجة أن المُشاهد يُصدِّق ما يراه أمامه على الشاشة، بالإضافة إلى التناول الواقعي السوداوي للمآسي التي يعانيها المجتمع الأوروبي، والمنعكسة بدورها على الأفراد والأسر.

هذا كلّه رغم البؤس والضيق، وأمور مُحزنة أخرى ناجمة من مُعايشة الشخصيات والتفاعل معها. لذا، كان التأثير عميقًا.

مع بداية "معاركنا"، يظهر رهان بأن غييوم سونيز يحاول، عبر تصدّيه لقضية العمال ولمعاناتهم في أحد مستودعات التخزين الكبرى لشركة "أمازون"، اعتماد النهج نفسه الذي اختاره الفرنسي ستيفان بريزي: تأثير الرأسمالية والعولمة واقتصاد السوق على العمّال المهدورة حقوقهم، الذين تتهدّدهم دائمًا أشباح الطرد والتشرّد والديون والسجن. يُلمِّح "معاركنا" بهذا، قبل إدراك أن الـ"هذا" نفسه مجرّد خلفية لرسم شخصية البطل أوليفييه (رومان دوريس)، المسؤول إداريًا ونقابيًا عن جزء كبير من فريق عمله، والدفاع عنهم أمام الإدارة.
كما تظهر، بشكل عابر، زوجة أوليفييه وطفلاه، مع لمحة عن حياته الأسرية، من دون أن يخطر بالبال أبدًا أن الفيلم سيتمحور، لاحقًا، حول الأسرة نفسها، فيوضع أمر العمّال ومشاكل العمل ومسائل النقابة والإدارة في الخلفية. إذًا، المدخل اجتماعي من زاوية اقتصادية بحتة، وهذه نقطة محورية من دون شك، وغير تقليدية بعض الشيء، سيما أنها لا تسقط في فخّ التأثر بسينما البريطاني كِنْ لوتش والأخوين البلجيكيين جان ـ بيار ولوك داردن.

يقطع جان لوك المُسنّ، زميل أوليفييه، أوردته، ويُنقَل إلى المستشفى في حالة حرجة، مُعرّضًا ابنته الشابة وامرأته، المليئة حياتهما بالأقساط والالتزامات المادية، لمشاكل لا طاقة لهما بها. لوفاته تأثير ساحق على أوليفييه (رغم شعوره بالذنب جزئيًا) وزوجته لورا (لوسي دوباي)، وإن يكن التأثير غير مُلاحَظ وغير مُدرك إلا لاحقًا. وتزامنًا مع الحدث، تأتي ذات يوم سيّدة إلى محل الملابس النسائية حيث تعمل لورا، بنيّة شراء فستان تظنّ أن سعره منخفض، فتفاجأ بارتفاع سعره، ما يُسبِّب لها إحراجًا كبيرًا، فتضطر إلى شرائه، لكن بطاقة المصرف معطّلة. بعد محاولات عديدة وعقيمة، تبكي السيّدة، فتنخرط لورا معها في بكاء مرير، قبل انهيارها وسقوطها أرضًا. هذه مُشاركة إنسانية من إنسان رقيق، كما يوهم المشهد، فهي تظهر لاحقًا في منزلها تُداعب طفليها وتمازح زوجها، وإن تبك بمرارة في الحمّام. في الصباح التالي، تودّع زوجها قبيل ذهابه إلى العمل، ثم تختفي من حياة أوليفييه وولديهما إلى الأبد، من دون أدنى إشارة.

مع الاختفاء المفاجئ للورا، تنقلب حياة أوليفييه رأسًا على عقب. لا شيء يبدو قابلاً للإصلاح رغم تدخل والدته المُسنّة للمساعدة من حين إلى آخر، ومُشاركة شقيقته له في تربية الولدين، والاعتناء بهما وقت فراغها، فوضعه المالي لا يُساعده على تكليف مربيّة برعايتهما أثناء عمله. يضطر إلى الاهتمام بمدرستهما وإيصالهما إليها، وتُضاف على عاتقه أعباء كثيرة يجد نفسها عاجزًا عن التعامل معها. هناك أيضًا حزنه العميق وحبّه الواضح للورا، مقابل عجزه عن البحث عنها. كما أنه لا يستطيع إبلاغ الشرطة للبحث عنها، حتى مع حصوله على أدلة تكشف تردّدها على عيادة طبيب نفسي، وعلى تعاطيها أدوية.

مرة ثالثة، ينتقل السيناريو ببراعة إلى تفاصيل أخرى مُغايرة. الجانب الاقتصادي عامل مؤثّر على أسرة لورا، خصوصًا بعد مغادرتها المنزل، ولعلّه سبب متاعبها النفسية. كذلك، لهذا الجانب تأثير على واجبات أوليفييه تجاه أسرته وطفليه، بالتزامن مع انشغاله بالاتحاد والعمال. السيناريو يتناول التأثير النفسي على الحياة عامة، وعلى أفراد الأسرة خاصة، عبر أسرتي أوليفييه وصديقه المنتحر جان ـ لوك؛ ويمضي أبعد من ذلك بكثير.

مع اضطراره إلى الاهتمام بتربية طفليه ورعايتهما، والانشغال بـ"فرارهما" بحثًا عن والدتهما (لولا الشرطة لضاعا)، يكتشف أوليفييه عيوبه، ويدرك أنه أناني جدًا، وأنه لم يُكرِّس ما يكفي من الوقت والجهد لأسرته، مانحًا العمل والاتحاد أولويات انشغالاته، ما أفقده لورا، وربما إلى الأبد، وكاد يفقده ولديه.

لكن، هل يقع هذا كلّه على عاتق أوليفييه، أم أن للورا دورًا ما أيضًا، نظرًا إلى عدم مواجهتهما معًا مشاكلهما، ومصارحة أحدهما الآخر بمتاعبه؟

تتعقّد الأمور بعد ترتيب حياته مجدّدًا. فالاتحاد العمالي يكاد ينهار، لكنه يُرشّحه لتولّي منصب في مدينة بعيدة. ويفاجأ أوليفييه بأن مُديرة شؤون الأفراد، المُثيرة للمتاعب مع العمال، تمّ فصلها، وأن منصب المدير يُعرض عليه، لأنه الأقرب إلى العمال والأجدر بالتعامل معهم. وبدلاً من الدفاع عن حقوقهم، يجد نفسه ذات يوم مسؤولاً عن طردهم وتشريدهم. فهل تقدر شخصية أوليفييه، بجوانبها الحسنة طبعًا، والتي تتوضّح مع أحداث الفيلم، على إحداث توازن مطلوب؟ وهل من أمر يُساهم في تطوّر شخصيته وتبدّل تصرفاته بعد اختفاء لورا؟

المساهمون