تسييس الفن: دراما وممالك من نار

تسييس الفن: دراما وممالك من نار

18 يناير 2020
أنتجت أبوظبي مسلسل "ممالك النار" المُتخم بالرسائل السياسية (فيسبوك)
+ الخط -
في الآونة الأخيرة، شاهدنا أعمالاً سورية وعربية تشفي غليل الدولة السياسي صاحبة إنتاج العمل، كما فعلت الإمارات في "ممالك النار"، وغالباً ما كانت هذه الأعمال تاريخية ربما لنبش الماضي وتبيين الحقيقة، بشكل لا يخلو من التجييش؛ كحال غالبية وسائل الإعلام العربية التي ابتعدت عن الموضوعية أثناء الحروب في المنطقة.
الحكاية ليست جديدة، لكنها بدأت تظهر حين قدمت السينما السورية والتلفزيون السوري قصصاً درامية تؤيد رواية الدولة السورية، في غايةٍ منها إلى تأليب الرأي العام لصالحها عمّا يجري في الحرب السورية، وتكاد المؤسسة العامة للسينما لا تخلو من فيلم تتحدث فيه عن تأثير الحرب على فئة معينة من السوريين، متجاهلةً روايات أخرى تصب في عكس صالح رواية النظام السوري، ومن هذه الأفلام والمسلسلات نذكر "دم النخل، و"رد القضاء"، و"مطر حمص"، و"بلا غمد" وغيرها، والعكس صحيح، إذ قام أيضاً الفنانون السوريون المعارضون بطرح وجهة نظرهم ضمن أعمال تعد خجولةً عددياً مقارنةً بالأعمال المنتَجة في سورية، وحاولوا فيها إبراز روايتهم أيضاً من دون حيادية مطلقة، ومنها مسلسل "وجوه وأماكن" للمخرج هيثم حقي، وفيلم "يوم أضعت ظلي" للمخرجة سؤدد كعدان.
في حين برزت أعمال بقيت على الحياد، وناقشت القضية السورية بكافة أبعادها ورؤاها المنطقية، من دون تحيز، مثل "غداً نلتقي" و"قلم حمرة" و"ضبوا الشناتي"، مبتعدةً عن الإساءة للأطراف المتصارعة في سورية، وعارضةً كل الزوايا بطريقة جذابة وهادفة بعيدة عن التحريض.
لم تتوقف القصة هنا فقط، فبعد عودة الإنتاج العربي لاختيار دمشق مكاناً لتصوير المسلسلات فيه، ببطولة نجوم سوريين، قامت أبوظبي بإنتاج مسلسل "المهلب" في خطوة غريبة بعض الشيء، كونه قائداً مسلماً، لا يتضمّن تاريخه تلك الأهمية التي قد يتضمنها غيره من الشخصيات. لكن، بعد متابعة المسلسل الذي أخرجه الأردني محمد لطفي، يلاحظ المشاهد فوراً أن القصة ليست فقط عبارة عن سرد أحداث لحياته، بل كانت تحمل رسائل مهمة جداً ورمزية عن الصراع الخليجي، تحديداً بعد الخلافات الناشئة واتهام قطر من قبل السعودية والإمارات بـ"تخريب المنطقة"، فما كان من "المهلب" إلا أن قدم رسائل واضحة رغم رمزيتها لقطر عن دور تاريخي مزيّف في تكريس التطرف منذ أيام الصراع على خلافة النبي محمد، خصوصاً أن صديق المهلب المقرب هو ابن الفجاءة، الشاعر القطري المعروف، في كناية عن الاقتتال بين الإخوة الخليجيين الذين تربوا في مكان واحد وبيت واحد، ليهجم ابن الفجاءة على المهلب ويقتلع عينه في ساحة الوغى، لكن يردها له المهلب في النهاية بالقتل!
أيضاً، حين ارتأت السعودية عكس ممارسات داعش في عمل فني، قررت إنتاج مسلسل "غرابيب سود"، ربما في غاية واضحة لإبعاد أي شبهات تحوم حولها بدعم الإرهاب، إلا أن العمل توقف بعد 20 حلقة فقط بسبب تهديدات من داعش نفسه، ولا أحد يعلم إن كان تهديداً حقيقياً فعلاً، لكن هذا ما صُدِّرَ لنا.
آخر ما أصدرته الدراما التلفزيونية في هذا الصدد هو "ممالك النار"، العمل الذي اعتُبر الأضخم إنتاجياً والذي قدّم حقبة مهمة من التاريخ العربي والعثماني، أضاءَ فيها على فترة انتهاء حكم المماليك، وبداية الغزو العثماني للدول الإسلامية، وفي حين أن العمل يهدف لفضح تاريخ تركيا الدموي، إلا أنه جاء في وقتٍ حَرج يتصاعد فيه التوتر التركي الإماراتي والعلاقات السيئة بين البلدين فما كان من الإمارات إلّا أن ردت على تركيا من خلال شركة "جينوميديا" بعمل ضخم فضح سلاطينها الدمويين لا سيما سليم الأول، ولكنه في ذات الوقت أظهَرَ سماحة مبالغاً فيها لـ "طومان باي"، آخر مملوك قُتِلَ شنقاً.
تدخل السياسة تفاصيل حياتنا حقاً، وهذا أمر لا مفر منه، لكن يجب على الفن أن يبقى متنفساً لجمع الناس على الحب، والاحترام، لا أن يشفي غلائل دول متصارعة أو يستخدمه المنتجون العرب وسيلةً لدعم وجهة نظرهم السياسية وجعْلها "ترند" على وسائل التواصل، فلو فرضنا مستقبلاً أن المشكلة الخليجية مع قطر حُلَّت أو أن تركيا والإمارات تصافحتا، هل ستبقى نكهة هذه الأعمال هي نفسها وقت عرضها من جديد؟ هل ستبقى ذكرى جميلة؟ أم ستُمحى من الأرشيف الدرامي بمجرد تبادل الحكّام المتصارعين الصلح؟

المساهمون