أفلام "كارلوفي فاري": ألوانٌ تفضح مُخبّأ... ومسار يُعرّي أرواحًا

أفلام "كارلوفي فاري الـ54": ألوانٌ تفضح مُخبّأ... ومسار يُعرّي أرواحًا

03 يوليو 2019
كورينّا إرفش في "لارا": خراب الروح (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
ترتكز 3 أفلام حديثة الإنتاج (2019)، تُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، على مفهوم الرحلة، المؤدّية غالبًا إلى اغتسالٍ أو تطهّر أو ولادة جديدة. فالرحلة، التي تُخاض مغامراتها وتجاربها وتحدّياتها ومآزقها، تدفع الشخصيات الـ3 إلى أقصى الألم والتمزّقات، للخروج لاحقًا من ارتباك العلاقة بالذات والآخر إلى نوع من سكينة وتفاهم وأمانٍ ما، وإنْ تبقَ حالات كهذه مؤقّتة، غالبًا، في يوميات العيش في عالم متقلّب ومضطرب. 

وإذْ تتصدّر المرأة واجهة "عذراء آب" للإسباني خوناس ترويبا (1981) و"لارا" للألماني ليان ـ أولي غْياسْتر (1978)، فإنّ الشاب يحتلّ صدارة المشهد في "رياح موسمية" (المملكة المتحدة) للكمبودي هونغ كَاو (1975). في الأول، تأتي إيفا (إيتاسو آرانا) إلى مدريد، لتمضية إجازة النصف الأول من أغسطس/ آب، المتزامنة مع احتفالات مختلفة تُقام في المدينة يوميًا. في الثاني، تعيش لارا (كورينّا إرفُش) مخاضًا قاسيًا في يوم واحد، ينتهي بالتباس واضح في مصيرها، بعد بداية اليوم ذاك بالتباس ربما يكون أعقد: وقوفها أمام نافذة منزلها، كأنها راغبة في الانتحار. في الثالث، يعود كيت (هنري غولدينغ) إلى فيتنام، بلده الأصلي، لتصفية أملاك قليلة لوالدته المتوفاة حديثًا.

الرحلة جغرافية أساسًا في مسار إيفا وكيت، بينما تكتفي رحلة لارا في الذهاب بعيدًا داخل الذات الفردية، في استعادة حادة ومُتعِبة، للارا وللمحيطين بها، لماضٍ مليء بانكسارات وسطوة ومواجهات وصدامات. الجغرافيا في رحلتي إيفا وكيت تنفتح على أهوالٍ وتساؤلات وحيرة وارتباكات، بينما الجغرافيا في "لارا" محصورة في مدينة واحدة، بين أزقة ومنازل ومؤسّسات، فالمرأة غارقةٌ في اختناقٍ يزداد قسوة مع انكشاف ماضٍ مُثقل بانشقاقاتٍ، تبلغ مرحلة التئام معطّل، فالمأزق أخطر من أنْ تُحلّ أسبابه في يومٍ واحد، وإنْ يتميّز هذا اليوم بكونه العيد الستين لولادة لارا، والحفلة الموسيقية الأولى لابنها الوحيد يوهانّا (مالا إيمْده).

تريد إيفا تغييرًا جوهريًا في حياتها. تبلغ 33 عامًا. وحيدة ومنعزلة، تُشاهد بعينيها حياة تمرّ أمامها، فتصبو إلى تبديل حقيقي في مسار وعيش وتفاصيل. زيارتها مدريد مدخلٌ إلى اختبار حالات وانفعال. الحرارة مرتفعة في صيفٍ ملتهب. صديق لها يمنحها منزله، فتُقيم في شارعٍ يشهد بعض تلك الاحتفالات السنوية. صدف قليلة تجعلها في مواجهة نماذج مختلفة (إنْ لم تكن متناقضة)، فتحاول عبرها ومعها اكتشاف معانٍ وصُورٍ عن معنى الحياة والحب والعلاقة والرغبات والهواجس. تلتقي شابات وشبابًا. هؤلاء جميعهم يؤثّرون بها، بلمسة أو كلمة أو تصرّف أو سلوك أو قول أو صمتٍ. صخب المدينة لن يحول دون التنبّه إلى صخب الارتباكات التي تعتمل في روحها.

كيت يُشبهها، وإنْ يختلف التعبير عن المشترك بينهما. عودته إلى سايغون تهدف إلى تصفية ممتلكات، لكنها غير مكتفية بهذا، فالماضي حاضرٌ بقوّة، والعلاقات القديمة تكشف ملامح من المعلّق في ذاك الماضي، والآنيّ دعوة إلى تلبية حاجة في الذات والروح إلى خلاصٍ، وإنْ يكن مجتزَأ. وإذْ تجتهد إيفا للخروج من نفقٍ تنساق إليه من دون انتباه، فتعثر عليه في علاقة ربما تكون ولادة جديدة لها؛ فإنْ كيت يُنهي رحلته تلك بصفاءٍ، كأنّه يحتال على خرابٍ، أو يردم هوّة.



لارا نفسها تبدو كمن يحتال، بدوره، على خراب، أو يردم هوّة. لكن الاحتيال والردم صعبان، فالمعلّق أقسى من أنْ يبلغ منتهاه، وأصعب من أنْ يزول. مع هذا، ينتهي كيت عند نوعٍ من مصالحةٍ جدّية مع ذاته، بينما توحي لارا، في لقطة أخيرة تختزل شخصيتها، أنّها ستبدأ عيشًا مختلفًا مع إطلالة اليوم التالي. في هذا، لن تبتعد إيفا كثيرًا عنهما، رغم أنّ لارا أكثرهم انغماسًا في الألم والعزلة والدمار. ففي مقابل عثور كيت وإيفا على ما يُشبه خلاصًا لهما من أهوال العيش والمصائب، تبدو لارا ـ أمام بيانو جارها بعد عزفها عليه بعنفٍ كمن تضيع روحه في متاهات الذات ـ أقلّهما تمكّنًا من التجدّد والانبعاث.

هذا كلّه ملتبس ومعلّق. فالإيجابيّ غير ثابت، والألم غير كامل. المصيران، المتشابهان إلى حدّ كبير، اللذان يبلغهما الثنائي إيفا وكيت، غير كامِلَين، مع أنهما بداية انعتاق من حالة، وامتلاك حالة أخرى. مصير لارا تائه بين تعرية روحها أمام ذاتها، خلال يوم حافل من الانكشافات، وتوقها إلى استعادة نفوذ مفقود رغم تنبّهها إلى أنّ نفوذها ذاك سبب انكساراتها وخيباتها ومواجعها.

الملامح المتشابهة بين مسارات الشخصيات الـ3 ومصائرها غير مُترجمة إلى تشابه في الجماليات الدرامية والفنية والتمثيلية للأفلام الـ3. البساطة والسلاسة ميزتان تسمان "عذراء آب" و"رياح موسمية"، من دون الانتقاص من أهمية مسار إيفا وكيت ومصيرهما؛ بينما الحدّة والقسوة تصنعان "لارا"، فإذا بكارينّا إرفُش تُزيدهما عمقًا وبهاءً بأدائها الموغل في ثنايا الإحباط والتمزّق والتوهان، التي تعيشها لارا مع نفسها، كما مع الآخرين. وإذْ يُكثِّف "لارا" (سيناريو بلاز كوتن) حبكته وتفاصيلها ومناخها وحواراتها، فإنّ "عذراء آب" (سيناريو خوناس ترويبا وايتاسو آرانا) يغرق أحيانًا في ثرثرة تعتمد نقاشاتٍ في مسائل وتفاصيل تبدو كأنها لن تنتهي، تمامًا كحال "رياح موسمية" (سيناريو هونغ كاو). وإذْ يعتمد يان ـ أولي غْياسْتر على ألوان تنبثق من مناخٍ بارد وماطر، وتقترب ـ في الوقت نفسه ـ من تفسيرٍ بصري لحالات وانفعالات (مدير التصوير فرانك غْريبيه)؛ فإنّ وهج الأضواء وحرارة الصيف وبهاء الألوان الفاتحة تجعل "عذراء آب" أكثر حيوية وحماسة رغم أسئلة مليئة بإحباط وانكماش وقلق وارتباكات (مدير التصوير: سانتياغو راكا)؛ بينما تتوزّع ألوان "رياح موسمية" على أمطار وانقشاع ملتبس (مدير التصوير بنجامن كْراكون).

المساهمون