حكاية أو. جي: أقنعة سوداء تتساقط عن وجوه البيض

حكاية أو. جي: أقنعة سوداء تتساقط عن وجوه البيض

11 مايو 2019
أثارت أغنية جاي زي جدلاً كبيراً (فيسبوك)
+ الخط -
أثارت أغنية الرابر الأميركي جاي زي-Jay z، "حكاية أو. جي" ــ نسبة إلى لاعب كرة القدم أو جي سيمبسون ــ الجدل، إذ نسمع فيها كيف سيبقى "الملّون" ملوّناً، ونرى في الفيديو كليب الوجه الأسود ذا الشفتين الحمراوين، كنموذج عن الملوّن؛ الكلمة التي نستخدمها عوضاً عن اللفظ الذي يوظفه جاي زي. ما يهمنا أن القناع، أو المكياج السابق، الذي نراه في الأغنيّة، يستدعي تاريخ العنصريّة وكيفية تمثليها وترسيخها في الأشكال الثقافيّة والفنيّة، إذ كان "البيض" يضعونه ليلعبوا دور الملونين، الذين كانوا ممنوعين من التأدية على المسرح، وتحوّل إلى رمز لسياسات الفصل العنصري، ورسم صورة نمطيّة كاذبة، إذ يخفي بظهوره حقيقة ما يمر به الملوّن، فهو يمثّل عبداً سعيداً، حراً سعيداً، مشهوراً سعيداً، غنياً سعيداً، فقيراً سعيداً، حسب أغنية جاي زي، هو وجه العنصريّة المزيّن الزائف.

حساسية هذا القناع جعلته محط الكثير من الجهود الفنية والثقافية لكشف حقيقته وتغير شكله الآن، لكن هذه الجهود مقتصرة على جانب واحد؛ هو الملوّن، وتظهر المشكلات حين يوظف من "غير الملونين" أو البيض، كون دلالاته ترسّخ تاريخاً قمعياً لا يمكن للسياق أن يعيد تعريفه بسهولة، وهذا ما حصل مع شركة "غوتشي" الشهيرة، التي أنتجت كنزة بقبة عاليّة تصل حد الفم، الذي نراه مُفرغاً، وحوله شفتين حمراوين، ما أثار عاصفة من الانتقادات، خصوصاً أن الكنزة طرحت في الأسواق أثناء "شهر الفخر الأسود" في الولايات المتحدة، وإثر ذلك، قام المدير التنفيذي للشركة بتقديم اعتذار رسمي. نقرأ فيه: "لقد أخطأنا خطأ كبيراً، بسبب الجهل الثقافي، لكن الجهل ليس عذراً، ونحن نتقبّل كل المسؤوليّة تجاه ها الخطأ.. لم يكن الأمر مقصوداً أبداً".


تدارُك "غوتشي" للموضوع، يطرح سؤالاً حول حرية التعبير: هل هناك رموز مصادرة أو مقدسة لا تمكن استعادتها أو التعامل معها فقط بسبب تاريخها؟ مهما كان السياق الذي تحضر فيه، إلا أن الجدل اشتعل في فرنسا أثناء مهرجان "داينوسيس" المسرحيّ الذي تقيمه جامعة السوربون، وذلك بسبب مسرحيّة "حاملات الشراب" لأسخيلوس، فبعد تسرب صورة للتدريبات، قام ناشطون ومؤسسات ضد العنصريّة بالتجمع أمام مسرح الجامعة، ومنعوا الناس من الدخول، وحكموا على المسرحيّة بأنها "عنصريّة". السبب، باختصار، هو أن أحداث المسرحيّة في حوض النيل، واختار المخرج أن يجعل الممثلات اللاتي يؤدين شخصيات ساقيات المياه ملونات بالأسود مع ملامح بارزة وفاقعة الألوان. ما وجده البعض كاستعادة للقناع الأسود، وقام الناشطون بإطلاق بيان بعنوان دعاية كولونيالية في السوربون، في تأكيد على خطأ هذه الممارسة، واعتبروا عرض المسرحيّة خطأ أفدح وإصراراً على العنصريّة.


كنزة "غوتشي" التي أثارت غضباً كبيراً (فيسبوك)

ادّعاء الرقابة على الفن
هذا المنع أثار حفيظة الكثيرين من العاملين في المسرح الفرنسي، إذ أطلق وجدي معوض وأريان منوشكين بياناً ينتقدان فيه هذه الهجمة الشرسة التي انتهت فعلاً بمنع المسرحيّة، ورأيا في ذلك تهديداً لحرية التعبير ورقابة لامنطقيّة، خصوصاً أن الشكل الفنيّ في المسرحية لا يتطابق مع تاريخ "الوجه الأسود"، وتتالت المقالات التي تدافع عن حرية التعبير التي ترى أن ما حصل فاتحة لرقابة جديدة، فالقناع الإغريقي الداكن ليس الوجه الأسود؛ فهل يجب منعه؟ هل هذا يعني أن "الأداء" و"التمثيل" وأشكال التنكّر مقسّمة حسب اللون والجنس، وهناك ما لا يجب الاقتراب منه لأنه حكر على فئة ما.

الجلبة ذاتها حصلت في سياق مشابه، لكن على مستوى دوليّ، حين استضاف مسرح الشمس الفرنسيّ الذي تديره أريان منوشكين المسرحية الكنديّة "كاناتا"، التي لم تعرض في كندا، كون الكثير من الناشطين اعترضوا على أنها تتناول السكان الأصليين من دون وجود أي واحد منهم ضمنها، ومن دون حتى استشارتهم في الحكايات التي تتناول تاريخهم وصراعهم، ليأتي رد المخرج ربويرت لوباج بأنه يحق لأي أحد أن يمثل أي أحد، ومن دون ذلك فلا وجود للفنّ.


المساواة بين الجلاد والضحية
هذه المقاربات "البيضاء" التي ظهرت أخيراً يمكن تلخيصها بأن الأبيض المستعمر تاريخيّاً والمنتفع إلى الآن من شكل التاريخ والعالم، يطالب بحقه من الحكاية التاريخيّة، والمشاركة في أدائها وتمثيلها بصورة قد لا تبرّئه، لكنها تجعله على قدم المساواة مع الضحيّة. وهذا ما يطرح سؤالاً عن "الحق بالظهور" الذي منعت منه الأقليات العرقية والجنسيّة، وهل يحق للقامع والمُستعمر مصادرة صوت الضحية؟ بل وتبنيّ نزعة رومانسيّة بأنه أيضاً ضحية مأساة، متناسياً دوره الجوهري فيها ولو بصورة غير مباشرة. وهل ببساطة يمكن تناسي رموز القمع وتاريخه وتوظيفها ضمن الفن بحجة التسلية والترفيه؟

في سياق مشابه لما تشهده المنطقة العربيّة، هل يحقّ لمؤيدي نظام الأسد أن يلعبوا دور المتظاهرين في الساحات؟ أو هل يحق لمؤيدي السيسي والموافقين على حكمه أن يؤدوا أدوار الثائرين والمتظاهرين؟ هذه التساؤلات مشروعة ويحق للمشاهدين والناشطين طرحها، خصوصاً في ظل الإنتاجات الفنيّة المشتركة، التي تميع ضمنها الاختلافات السياسيّة وتتحول مساحة اللعب إلى مساحة للصداقة في تجاهل للمواقف السياسيّة، وما يعنيه تلاشيها على الشاشة بحجة الدراما والفن.

دلالات

المساهمون