من غرفة الأرشيف: "الفنون الشعبية الفلسطينية" في أربعين عاماً

من غرفة الأرشيف: "الفنون الشعبية الفلسطينية" في أربعين عاماً

22 اغسطس 2019
يعبّر الأرشيف عن قدرة فرقة فلسطينية على الاستمرار(مؤسسة القطّان)
+ الخط -
خطر على بال مدير عام فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، خالد قطامش، قبل سنواتٍ بعيدة، أن يؤرشف كل ما يتعلق بالفرقة، حتى قصاصات الورق؛ لقناعته التامة أن ما لم يتم توثيقه سيجري مع الريح ويُنسى. أخيراً، قرّرت فرقة الفنون الشعبية الإفراج عن جزء مهم من أرشيفها الضخم على مدار أربعين عاماً من تأسيسها، والذي يتضمن آلاف المتعلقات بالفرقة من أزياء وصور وفيديوهات وأشرطة أغان ودروع تكريم، لصالح معرض "من غرفة الأرشيف" المقام حالياً في مؤسسة عبد المحسن القطان في مدينة رام الله وسط الضفة الغربية؛ لاختبار ردود فعل الناس على هذا الإرث الثقافي المهم، وشرح كيفية مرافقة الفرقة لفلسطين في أفراحها وأزماتها التي كان الاحتلال الفتيل الأول والأخير في إشعالها.

يمكن رصد حركة المجتمع الفلسطيني منذ العام 1979، وهو تاريخ نشأة فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، عبر أرشيف هذه الفرقة، إذ يدلل خالد قطامش على مثال الأزياء، لا سيما الأثواب التي تلبسها الراقصات. يقول: "بدأت فرقة الفنون مشوارها بالزي الفلكلوري التقليدي وأخضعته للشكل الفني المناسب للمسرح؛ لكنها حافظت على خصوصيته الفلسطينية بالتطريز اليدوي إلى اليوم، إذ يمكن بالاطلاع على أثواب الفرقة عبر السنوات اكتشاف التغيّرات في حياكة النساء الفلسطينيات للثوب، فنحن نكلف نساء من قرى وربما من مخيمات داخل فلسطين وخارجها للقيام بهذه المهمة".

الأزياء ليست المثال الوحيد، فمراقبة الفيديوهات المعروضة القديمة التي أصرت مؤسسة القطان على عرضها على شاشات تلفزيونية قديمة قِدم حدث الفيديو نفسه، تقود إلى معرفة التغيّرات التي طرأت على حركة الدبكة التي كانت بطيئة ومتثاقلة نوعاً ما في الماضي، تماشياً مع حياة الفلاح التي يملأها الانتظار، إذ يزرع وينتظر شهوراً للحصاد وعيش المواسم، أما اليوم فلا مواسم ينتظرها الفلاح، وعمت التكنولوجيا تفاصيل الحياة اليومية للفلسطيني على الأغلب، كما الأكثرية الساحقة للمجتمعات البشرية. هذا ما انعكس على حركات الدبكة التي تمثلها الفرقة وصارت سريعةً أكثر. تتجاوز كم الحركة الفلكلورية المحصورة بـ 25 حركة، فتطورت إلى حركات معاصرة، يمكن ردها إلى حركتها الأصلية في الدبكة التقليدية، بحسب ما يوضحه مدير فرقة الفنون الشعبية خالد قطامش.

كان قطامش يُصر على الاحتفاظ بمحاضر الاجتماعات، ومن اختلف في ذاك الاجتماع مع من، وعلى أي الأعضاء حلت العقوبات. ويوضح قطامش لـ"العربي الجديد"، أن أهم ما في الأرشيف هي محاضر الاجتماعات التي تبيّن للناس الآلية التي تطورت الفرقة من خلالها عبر النقاشات والخطط وتفعيل الأجواء الديمقراطية.

انضمت سيرين حليلة، وهي من الراقصين القدامى للفرقة التي انضم إليها منذ تأسسها ما يزيد عن 300 راقص، عام 1981 حين كان عمرها 14 عاماً واستمرت حتى العام 1996. تقول لـ"العربي الجديد": "يحمل الأرشيف اليوم أهمية كبيرة؛ فهو تعبير عن قدرة فرقة فلسطينية كالفنون الشعبية على الاستمرار، وهذا ما يوازي بالمثل صمود الشعب الفلسطيني رغم الاحتلال، ومن خلال تفحص الأرشيف يمكن فهم مقومات هذا الصمود".

يتجول الراقص أحمد الشيخ (14 عاماً) في معرض "في غرفة الأرشيف"، وهو منضم لبراعم الفنون وهي فرقة تتم تهيئة الراقصين الصغار فيها لنقلهم بعدها لمنصات الراقصين البالغين الأكثر احترافاً على المسرح ضمن فرقة الفنون الشعبية، لقد استقر نظر أحمد على مقطع لأحد مغني الفرقة قديماً.

يقول أحمد لـ"العربي الجديد": "كان قسم من أعضاء الفرقة يغنون ويرقص الآخرون على أغانيهم، عكس الرقص اليوم الذي يجري على وقع أغان جاهزة، وهذا يدفعني لأن أفهم معنى الأغنية التي أرقص عليها قبل الشروع بتعلم الدبكة".

توزع الأرشيف على أرضية المعرض بصورةٍ شاءت لها مؤسسة القطان أن لا تُخدش فيها المعروضات فنياً، بل على العكس ترفعها إلى ضفة، يمكن لمرتادي المعرض الاستقرار قربها ورؤيتها من البعد الاستقراري الأول، أو الجنوح إلى الضفة المقابلة لرؤية المعروضات وفق أبعادٍ أخرى حملتها محتويات الأرشيف عبر الزمن والتعب والرقص والتخطيط والجولات. في الحالتين، يبقى الأرشيف بقصصه المتواصلة بين الضفتين أمراً يستحق أن يُحكى ويعبر الزائر معه من ضفةٍ إلى أخرى عبر ذات الجسر.

أشرف الفنانون مهدي براغيثي، وبلال الخطيب، وعاصم ناصر، على الآلية الفنية واللوجستية لعرض أرشيف فرقة الفنون الشعبية، وقد اختار براغيثي بين 40 ألف صورة لمسيرة حياة الفرقة ألفي صورة، نقلها في إطار عملٍ فني استحوذ على اهتمام الزوار واستدعى إعجابهم.
يقول الفنان مهدي براغيثي لـ"العربي الجديد": "لقد جعلت هذه الصور على شكل هرم أو جبلٍ ثائر كبركانٍ منفجر، لذكريات وأعمال الفرقة التي استدعت انفجاراً عالي الحسية في مشاعري الفنية التي دعتني لهذا الشكل الفني، مع ضرورة مراعاة عرض الصور بطريقة تحكي القصص الأصلية كصورة الراقصين حسين إعمر ورهام البرغوثي على رقصة العاديات لمارسيل خليفة مطلع التسعينيات من القرن الماضي".

كان العمل مع هذه المواد الصورية التي تجسد تاريخ فرقة مهمة، وفق براغيثي، أمراً في منتهى الحساسية والجمال اللذين أتاحا له التعرف إلى مجتمع فني كوّنته فرقة الفنون الشعبية، التي ربط أعضاؤها والعاملون عليها أبناءهم وبناتهم وأجيالاً بالفرقة التي أضحت بالفعل منزلهم الثاني.
يُذكر أن فرقة الفنون الشعبية تأسست بجهود شبان فلسطينيين تطوعوا لحماية التراث الفلسطيني من التلاشي، وتوطيد علاقة الفلسطيني به، وكانت أبرز عروضها عروض وادي التفاح عام 1984 وعرض مشعل عام 1986، وعرض مرج ابن عامر 1989 الذي شكل قفزة نوعية في تطوير الرقصات التقليدية في الدبكة، وتخطت الفرقة حدود العطاء حين لعبت دوراً أساسياً في تأسيس مركز الفن الشعبي 1987، والذي خرّج أجيالاً ممن يتعلمون أشكال التعبير الفني المبدع.

ويستمر معرض "من غرفة الأرشيف" حتى 4 أكتوبر/ تشرين الأول القادم، لإتاحة الفرصة للزوار والمهتمين الاطلاع على هذا الدور المنوط بالفرقة وأهم ما مرت به خلال أربعة عقود.

المساهمون