ممنوع التدخين... الخوف على الصورة النظيفة وحدود الرقابة

ممنوع التدخين... الخوف على الصورة النظيفة وحدود الرقابة

12 يوليو 2019
اقتُرح في فرنسا حظر مشاهد التدخين في الأفلام (Getty)
+ الخط -
شهدت إعلانات التدخين تحولاً غريباً في مفهومها والتعاطي معها، فبعد أن كانت تجسّد إعلاناتها فتيات حسناوات يظهرن بأجساد جميلة وممشوقة في فضاء فخم وفاحش الثراء، ويروج لشركات السجائر المشاهير والرياضيين؛ أصبحت صور الأجساد المشوهة والمصابة بالأمراض تطبع على غلاف علب السجائر، مرفقة بعبارات عريضة عن مضار التدخين، وحملات مقاطعة وتحذير.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وازدياد عدد المدخنين عالمياً، بدأ العديد من العلماء يقدّمون أبحاثاً تدل على خطورة التدخين ومضارّه، ونُشرت دراسات تربط التدخين بأمراض خطيرة، كسرطان الرئة؛ إلا أن تلك الدراسات والأبحاث لم تؤخذ على محمل الجد آنذاك، وكانت شركات التبع تستعين بالمشاهير والرياضيين للتسويق لمنتجاتها، ومن أشهرهم الممثل إيريك لاوسون الذي رافق الحمل الدعاية لشركة "مارلبورو"، إذ مثل رجل الـ"كاوبوي" الذي تحوّل للصورة البصرية الخاصة لـ"مارلبورو"، وكذلك لاعب كرة السلة ديك هامر. كانت إعلانات التبغ منتشرة في جميع وسائل الإعلام السمعية والبصرية، كما هي منتشرة في المجلات والصحف.

في الستينيات، بدأت التحذيرات من مخاطر التدخين تؤخذ على محمل الجد، وكانت المملكة البريطانية هي أول من قام بحظر بث إعلانات السجائر وشركات التبغ على قنواتها التلفزيونية عام 1965، ولكن الحظر لم يشمل إعلانات السجائر في المجلات واللوحات الطرقية.
في بداية الثمانينيات، انتشرت تقارير وأبحاث عن أضرار التدخين السلبي على غير المدخنين، وبدأت بعض شركات الطيران بحظر التدخين في رحلاتها، ووضعت تحذيرات عن مضار التدخين على علب السجائر، ومنع التدخين في بعض الأماكن العامة. أما في التسعينيات، فبدأت وزارة الصحة العالمية بدراسة فرض قوانين خاصة بالتبغ ونشر حملات توعية واسعة حول مضاره. وعام 1990 بالتحديد، منع التدخين بشكل كلي ضمن رحلات الطيران، وبدأت دول كبرى، كأميركا وألمانيا، بحظر إعلانات التدخين ضمن قنواتها التلفزيونية.

عام 2002، أسست منظمة الصحة العالمية قانون الإعلان والترويج عن التدخين الذي يفرض على الدول الموقعة عليه حظر شامل في الإعلان عن التبغ والترويج له، ويشترط على الدول فرض قانون وفقاً لدستورها يحظر جميع أشكال الإعلان عن التبغ، أما الأطراف التي لا تستطيع فرض حظر شامل بسبب دستورها، فعليها فرض قيود على جميع أشكال الإعلان عن التبغ.

عام 2003، قام الاتحاد الأوروبي بالتوقيع على تلك الاتفاقية وبدأت جميع دول الاتحاد بإصدار قوانين مختلفة للحد من التدخين، وبدأت الدعاية السلبية ترافق علب الدخان نفسها، إذ طبعت عليها عبارات مكتوبة بالخط عريض عن مخاطر التدخين، كعبارة "التدخين يقتل" و"الدخان هو السبب الأول لسرطان الرئة". منذ فترة ليست بعيدة، بدأت علب الدخان تأتي مع صور لأجساد مشوهة نتيجة التدخين، وبدأت إعلانات الدخان تختفي حتى في الدول التي لم توقع على تلك الاتفاقية.
ومع انتشار القنوات الحرة على الإنترنت، وجدت الشركات مساحة جديدة للإعلان عن منتجاتها، ولكن سرعان ما ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي حملات تطالب بإيقاف هذه الإعلانات.
في 2014، انطلقت حملة إلكترونية تطالب بحذف مشاهد التدخين والشرب من المقاطع المنتشرة على تلك المواقع، سواء كانت في فيديو كليبات النجوم المعروفين أو حتى في الأفلام أو المسلسلات، وطالبت الحملة بفرض رقابة على محتوى تلك الوسائل وأبرزها "يوتيوب"، وكان أصحاب تلك الحملة ينادون لحذف هذه المشاهد وفرض رقابة مشددة، بحجة أن تلك الفيديوهات متاحة للجميع ومن الممكن أن تؤثر سلباً على اليافعين والأطفال وتدفعهم إلى تقليد ما يشاهدون.

عام 2016، دعت منظمة الصحة العالمية الحكومات إلى رفع تصنيف الأفلام التي تتضمن مشاهد تعاطي التبغ في محاولة لمنع شروع الأطفال والمراهقين التدخين، ولم تدعُ وزارة الصحة إلى حظر المشاهد، وإنما فرض تصنيف تبعاً للسن على الأفلام التي تحتوي على مشاهد تبغ من أجل الحدّ من التعرّض العام للشباب لمشاهد التبغ في الأفلام والإقرار في مقدمة الفيلم بأن مُنتج الفيلم لم يتلق أي شيء ذا قيمة من أي شخص مقابل استخدام منتجات التبغ أو عرضها في الفيلم، وأنه ليست هناك أسباب دعائية لوجود التبغ في الأفلام، ودعت إلى فرض عرض إعلانات قوية مناهضة للتدخين قبل الأفلام المتضمنة مشاهد تبغ في جميع دور السينما والقنوات التلفزيونية والإنترنت.

ما دعت إليه منظمة الصحة كان منطقياً إلى حد ما، فالإشارات قبل الفيلم أو العمل الفني لا تؤثر على المحتوى الفني للعمل، ولكن بعد ذلك بدأ التطرف في التعاطي مع موضوع التدخين يتنامى بشكل غريب. ففي 2017 في فرنسا اقترحت نادين غروليه (عضو مجلس الشيوخ الفرنسي) حظر مشاهد التدخين في الأفلام السينمائية، واقترحت رفع سعر علبة السجائر إلى 10 يورو، وفي العام نفسه اقترحت وزيرة الصحة الفرنسية، أغنيس بوزين، التنسيق مع وزارة الثقافة وصناع السينما لإيجاد حلول لتقنين مشاهد التدخين في السينما.
وأخيراً صرحت شبكة "نتفليكس" أنها ستمنع ظهور لقطات فيها تدخين سجائر أو تدخين إلكتروني في كافة أعمالها الفنية الجديدة لمشاهديها ممن هم دون الـ 14 عاماً، وذاك بعد الانتقادات الواسعة التي طاولت الشبكة بعد ازدياد عدد الشخصيات الشابة المدخنة في محتوياتها من مسلسلات وأفلام؛ وهو الأمر الذي أثار غضباً لدى عدد كبير من متابعي الشبكة والمخرجين وصناع الأفلام والنقاد؛ ففرض رقابة وحظر على أي محتوى فني يثير الريبة من خلق معايير معينة لسينما نظيفة وازدياد مساحة الرقابة والحد من الإبداع الفني.
في لقاءات أجرتها "العربي الجديد" مع مخرجين سينمائيين، بدا الجميع رافضاً للقرار ومنتقداً له. تقول المخرجة السينمائية غايا جيجي: "أشعر بالسخف اتجاه القرار، فماذا يعني التخفيف أو حظر مشاهد التدخين؟ هذا سيفتح الباب على تساؤلات عن المستقبل، ربما سيفرض علينا تخفيف مشاهد الحب أو السكر. برأيي، أي مشهد يحتويه الفيلم هو ضروري للفيلم ولتكوين الشخصية وتفصيلها وإلا لم يكن موجوداً فيه ولم يتم تصويره. ويجب أن نذكر دائماً بأننا نعمل على صناعة سينما وليس على صناعة برامج توعية هدفها الحد من التدخين".

وعقب المخرج نضال الدبس على القرار: "أنا ضد منع أو تقليل أي مشاهد أو تفاصيل تحتاجه الشخصية في الفيلم، وكل ما يكون مكتوباً في السيناريو وتتطلبه الشخصية يجب أن يكون موجوداً، بغض النظر عن أي معيار آخر. وفي حال تم فتح هذا الباب لن يغلق أبداً. المعيار الوحيد يجب أن يكون ما يحتاجه الفيلم والشخصيات فيه، فإذا كانت هناك شخصية متوترة وتعبر عن نفسها من خلال التدخين، فيجب أن تدخن، وإذا كان هنالك شخصية طبيعتها تستخدم كلمات بذيئة فيجب أن تستخدم هذه الكلمات. وبالمقابل، فإن أي فكرة أو فعل تضاف للشخصية، وهي زائدة عن حاجتها وليس لوجودها مبرر درامي أو فني مقنع، ليست جيدة للفيلم، مهما كان جميلاً".

المساهمون