"فندق قمر كابُل"... سينما رومانية متجدّدة

"فندق قمر كابُل"... سينما رومانية متجدّدة

12 اغسطس 2019
أنكا داميان: تفكيك الراهن الروماني سينمائياً (فيسبوك)
+ الخط -
عام 2015، أنجزت الرومانية أنكا داميان فيلمًا وثائقيًا رائعًا، عن المغامر البولندي آدم جاسيك فينكلر، سجّلت فيه فترات من حياته وتصوّراته عن العالم الذي حلم بتغييره. خصّصت لتجربته في أفغانستان ـ عند ذهابه إليها متطوّعًا للقتال مع مسلّحي أحمد شاه مسعود ضد الوجود السوفييتي هناك ـ مساحة جيدة من فيلم تحريك، رسم بورتريه عن لاجئ يساري، ترك باريس ليعيش مغامرة أفغانية، لعلّها منحته الشهرة الأكبر، ووضعته بين "آخر" الثوّار الراديكاليين. 
عام 2018، أثناء استلامها جائزة أفضل إخراج عن فيلمها الروائي الطويل "فندق قمر كابُل"، في الدورة الـ34 (12 ـ 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان وارسو السينمائي"، أخبرت الجمهور الحاضر أنّها استوحت فكرة الفيلم من وجودها في أفغانستان، أثناء تصوير وثائقيّ لها بعنوان "الجبل السحري"، وأنّ مراقبتها عمل الصحافيين في مناطق الحروب ألهمتها فكرة كتابة نصّ سينمائيّ عنهم.

كان يُمكن لـ"فندق قمر كابُل" أن يكون، بسهولة، كغيره من أفلام المغامرة الأميركية، ذات الطابع التشويقي، المتأتي من غرابة المكان، ومفاجآته المتواترة. لكن أنكا داميان، وشريكتها في كتابة السيناريو ليا بوغنار، اختارتا خطًا كتابيًا مختلفًا، أُريد له أن يذهب إلى العمق، لطرح أسئلة عن مبرّرات الوجود العسكري الروماني في أفغانستان، المُثير بدوره لاهتمام إعلامي خاص، يُشكِّل المُراسل الحربي أبرز ناقلي تفاصيله. هذا الوضع الميداني الجديد للصحافي الروماني، الذي لم يعرفه البلد أثناء الحكم الشيوعي الشمولي فيه، أضفى عليه "ألوهية"، ومنحه جرعة عالية من الغطرسة والتعالي.

هذه المواصفات كلّها موجودة في المراسل إيفان سيمتشوك (فلورين بيرسيتشك)، مع فائض من قدرة على خلط الوقائع بالخيال. معه، تواجدت في المكان نفسه المترجمة إيوانا بريدا (أوفيليا بوبي)، القلقة والمتخمة بالأسرار والخوف من المكائد. على أساس علاقتهما العابرة، يُبنى فعلٌ درامي، يأخذ مسار تصاعده منحنيات ملتوية، تلامس ضفاف علاقات متشابكة مع أحوال بلد
يتأرجح بين انتقال سياسي مشوَّه، ورسوخ قوى قديمة تسحبه إلى هاوية الدولة العميقة.

في المناطق البعيدة، حيث البطولة متأتية من خطورتها، تزداد أوهام الأهمية، بينما الحقيقة النهائية تقرّرها القوى المتنفِّذة في بوخارست. حتّى شكل الموت والبطولة يقرّره جنرالات البلد وأجهزة مخابراته، بينما يتوهّم الصحافي أنّه يملك الحقيقة كاملة، وأنّه قادر على إيصالها كما يُريد. أكاذيب الدولة المتورّطة بحروب أكبر منها، تحتاج إلى من ينقلها، مقابل ثمن.

هذه اللعبة القديمة بين النفوذ والإعلام تتكرّر في مُنجز مهم، يحافظ على أصوله السينمائية الشرق أوروبية، حيث للتصوير مكانته المميّزة (دومينيك كولين)، والموسيقى الخاصة المكتوبة بما يتوافق مع روحه (روماين ترويليت). يظهر ذلك الاشتغال ببهاءٍ في اللاحق من إعلان موت المترجمة انتحارًا، في "فندق قمر كابُل"، ونقل جثمانها إلى رومانيا.

لم يعرف سميتشوك المترجمة جيدًا إلّا بعد عودته إلى بلده، ليواجه أسئلة أخلاقية ووجودية، وأخرى عن دوره ومعنى ما يقوم به. في رحلة حضوره مراسم دفنها في قريتها الفقيرة، ومشاركته عائلتها تفاصيل ترتيبات خاصة بها، بعد شعوره بأنّه مسؤول عن جزءٍ من هذا كلّه، بوصفه آخر شخص كان معها، يكتشف الصحافي، أو يُعيد اكتشاف واقعٍ ساهم في ترسيخ سوئه. الشابة الرومانية لم تكن مترجمة فحسب، بل عملت مخبرة أثناء دراستها في الجامعة. فقرها سبب قبولها العمل، مقابل ضمان رعايتها لعائلتها، والاهتمام بأخيها الأصغر، المعوَّق نفسيًا. كان عليها الاعتماد على نفسها لتحقيق تكوين مهني يؤمّن لها حياة عادية، في بلدٍ اختلّت قواعد العمل والعيش فيه، بعد نهاية نظام تشاوتشيسكو. الفساد والقمع اللذان عُرف البلد بهما، استُبدلا بعده باستغلال للضعف والحاجة. التغيير المرتجى لم يحصل. في القرى، والكنيسة ما زالت تتبع قوانينها الرجعية، وتعامل الخارجين عن طوعها كـ"مذنبين"، يُدفنون قرب الجدار الإسمنتي للمقبرة، لا داخلها.

القيم المجتمعية، ومنظومة الضوابط الأخلاقية، متنازعة بين إيمان ديني وتساوق مع رغبات حسية وجسدية. الخجل من البوح بها علامة على نفاق أهلها. يكتشف المراسل المتغطرّس ضآلة دوره، مقابل ما كانت تقدّمه الشابّة، التي سلّمته قبل يوم من سفره وثائق وتسجيلات تفضح ممارسات الوحدات العسكرية وخفاياها، وتعبّر فيها أيضًا عن خشيتها من موت مدبّر، طمسًا لحقائق اطّلعت عليها بحكم عملها. لم يأبه أحدٌ بغيابها. عوملت كرقم صغير لا يستحقّ الاهتمام، ويوم حاول تحريك قضيتها جوبه بتحذيرات من فتح "أبواب جهنم" عليه. أدرك متأخرًا أنّ ما كان يظنّه في عمله إنجازًا، هو في الحقيقة خدمة مدفوعة لجهاتٍ قبلت به ناقلاً لأخبارها. موتها "المجاني"، الخالي من البطولة حتّى المزعومة عادة في الحروب، أعاده إلى مواجهة ذاته.

في مسار تحرّكه الجسور لمعرفة أسباب قتلها، يجد سميتشوك نفسه فجأة أمام قوى مخيفة: مخابرات فوق قومية، ومصالح كونية، وأسرار خطرة أُريد لها أن تبقى أسرارًا. انتهاكات جسدية ونفسية للرافضين المضي في حربٍ، وجدت رومانيا نفسها متورّطة بالمشاركة فيها، إشباعًا لرغبة انتقام وانعتاق كلّي من ديكتاتورية شيوعية. الدولة العميقة لم تغب، والكنيسة لم تضعف.

توافق المصالح الشخصية لقادة البلد مع قوى غير تلك الروسية القديمة، مُكرّس حضورها عالميًا، هو الجديد. ذلك ما أدركه الصحافي عبر سلوك شابة فقيرة، متورّطة لكنّها معطاءة.
مقارنة مع ما سمعه وعرفه عنها، وما يقوم به، تشجّع على تلمّس ماهيته، ومصارحة ذاته بكونه كائنا منتفعا ومغرورا. أدرك ضحالته، وأراد الخروج منها. ذلك الفعل المنتظر، وفيه خلاص روحي، جاء بصيغة سؤال مفتوح، يتجاوز الشخصيّ الضيق إلى العام السائد، المُفسِد الذي يمرغ معه كائنات بريئة. يلوّثها بلوثته، ويتخلّص منها عندما يشاء.

السؤال الأقسى لـ"فندق قمر كابُل" يتمحور حول مستقبل رأسمالية رومانيا المشوّهة، وخداع ذاتها، بتخلّصها التام من ماضيها التعيس. كيف صيغ السؤال سينمائيًا؟ باشتغالٍ باهر، وتمثيل رائع، ورؤية إخراجية مشفوعة بقراءة واعية لمحيطها، منتمية في أساليب سردها إلى سينما رومانية متجدّدة. في الفيلم شيء من الادّعاء بقدرتها على صنع أفلام "تشويقية"، كالأميركية، بفارق عمقها وبحثها في الاجتماعيّ والسياسيّ من دون مواربة.

المساهمون