رسّامون أخفوا وجوههم في لوحاتهم

رسّامون أخفوا وجوههم في لوحاتهم

12 فبراير 2019
"امرأة صغيرة تضع على نفسها البودرة" جورج سورا (Getty)
+ الخط -
عندما يعمد الرسامون أو النحاتون إلى نسخ أنفسهم بشكل بورتريهات، فهم يقصدون بذلك تخليد ذكراهم وتوثيقها من أجل استدلال الأجيال اللاحقة عليهم ومعرفة أشكالهم وسماتهم، كيف كانت في ما مضى. لكن كثيرًا ما نرى أعمالًا فنية تشكيلية متعددة البورتريهات، تضمنت شخصيات أصحابها بشكل خفي، ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالحالة السيكولوجية للرسامين، وجسدت خلجاتهم ونزعاتهم الخاصة.
هذه النزعة الشخصية قد تختلف من رسّام إلى آخر، ترتبط بالزمان والمكان حينًا، وبأشكال العاطفة والعشق أو الأسطورة حينًا آخر، لتتوّج علاقته بألوانه لوحات حجبت عن الناظر مفاهيم ودلالات خاصة، أبعد من مسبباتها الأساسية ودوافعها البصرية المقروءة للعلن.
لعلّ لوحة "الحرية تقود الشعب" واحدة من أشهر اللوحات العالمية، رسمت في القرن التاسع عشر على يد الرسام الفرنسي يوجين ديلاكروا، الذي أحيا من خلالها ثورة الشعب الفرنسي لنيل الحرية ضد الملك شارل العاشر عام 1830. في هذه اللوحة، نجد بورتريه ليوجين ديلاكروا نفسه مرتديًا زيًا يمثل الطبقة البرجوازية حاملًا بندقية بين يديه، إلى جانب أفراد آخرين يمثلون طبقات أخرى كالعمال والمثقفين والجند والمواطنين، في إشارة إلى اشتراك كافة طبقات المجتمع الفرنسي في هذه الثورة "من حيث المعنى".
لكن إن تعمقنا أكثر، وأبحرنا إلى عوالم الرسام الخاصة، واستشففنا ما كان يعتمل في داخله من مشاعر، فإننا نلاحظ صدى ندائه ورسالته التي أخفاها خلف ملامحه في مثل هذه اللوحة تأكيدًا منه على نزعة وطنية، فتح لأجلها ممرًا يتيح لأناه على ما يبدو أن تتفاعل مع حدث وطني خاص، ورغبة منه في وضع علامة له على صفحات التاريخ الوطني لفرنسا، وهذا ما حصل عليه، إذ أصبحت اللوحة رمزًا ديمقراطيًا في ما بعد.
لوحة فنية أخرى "امرأة صغيرة تضع على نفسها البودرة"، تعود للفرنسي جورج سورا الملقب بـ "الشاعر"، ويعتبر رائد التنقيطية ورمزًا لها. رسمها عام 1890، تعبيرًا عن حبه لمادلين نوبلوخ المرأة في الصورة بحسب ما أشيع. اكتشف علماء التشريح البصري في ما بعد وجود رسم بورتريه يعود إلى وجه الفنان نفسه، خلف المزهرية الظاهرة على الحائط، أخفى الأخير وجهه من خلالها، فأثارت حفيظة النقاد التشكيليين، وفتحت بابًا للتساؤل عن السبب الذي دفع سورا إلى إخفاء وجهه. الجواب الوحيد الذي توصلوا إليه، عبر البحث في السجلات التاريخية، هو تنازل من سورا بعد تعليق أحد أصدقائه بأنها هزلية بعض الشيء، لكن إذا ما نظرنا إلى الوجه الآخر من القصة، فسنجد طيفًا لنزعة عاطفية مرّ بها، أراد من خلالها مشاركة مادلين تحفته العجيبة ذات الفضاء غير واضح المعالم، ليكون شاهدًا على هواجسه وعلى حقيقة التفاوت الطبقي لفتيات تلك الحقبة، وربما هذا ما دعاه إلى رسم هذه اللوحة ضمن إطار مكاني مجهول، افترضه سورا تلبية لمخيلته العاطفية قبل أن يعدل عن قراره.
لوحة "يوم بومباي الأخير" الشهيرة، التي تعود للرسام الروسي الشهير كارل بيرلوف، أحد أبرز فناني القرن التاسع عشر، وأبرز ممثلي المدرسة الرومنتيكية، فعل هو الآخر مثلما فعل ديلاكروا في لوحته هذه، ولكن مع اختلاف في الحدث. رسم بيرلوف نفسه في اللوحة التي تروي قصة وقعت في مدينة بومباي الإيطالية عام 79 ميلادي في زمن الإمبراطور نيرون، التي طمرها بركان ثائر، أحال فيها الغبار البركاني المجموعة الموجودة في اللوحة إلى أصنام ومجسمات بشرية، فتأثر بها بيرلوف.
ورسمها في الفترة ما بين 1830-1833، وعبّر من خلالها عن شعوره بالمسؤولية وإحساسه بالتضامن أمام كارثة مهولة لا مجال فيها للأنانية والنأي بالنفس. لكن ما لبث بيرلوف أن ذهب إلى أبعد من ذلك، لتظهر نزعته الإنسانية بشكل أخّاذ، أوجد فيها لا شكلًا من الضمير الجمعي وضرورة التعاضد فحسب، بل عودة لفهم الطبيعة وقوتها وتحدياتها، ولربما أراد أن يوضح وجه التقارب بين جبروت الطبيعة ونيرون نفسه، وعليه ستفهم الجموع البشرية العبرة بالوقوف في وجه المحن والشدائد بشكل سليم مع الأيام.

دلالات

المساهمون