ريمٌ على القاع... المديح النبوي قبل الإسطوانة

ريمٌ على القاع... المديح النبوي قبل الإسطوانة

21 نوفمبر 2018
محمد بوزورجي / إيران
+ الخط -
يدرك المتابعون لتاريخ الغناء العربي أن المدائح النبوية تأتي في مقدمة الغناء الديني، وذلك لاعتبارات اجتماعية وتاريخية وفنية، وعلى مدى القرون تخصص عددٌ كبير من الشعراء في هذا الغرض، مثل الإمام البوصيري، صاحب البردة، والإمام الصرصري الذي قيل إن مدائحه جمعت في عشرين مجلداً، والإمام البرزنجي وغيرهم.

وقد درج المصريون على استعادة تلك القصائد وإنشادها فرادى وجماعات في مناسبة المولد النبوي، الذي يحتفلون به منذ زمن الفاطميين في 12 ربيع الثاني من كل عام. ويشير المؤرخان ابن إياس وابن تغري بردي إلى أن تلك الاحتفالات لم تنقطع طوال تلك الحقبة التاريخية، وأنها كانت تقام غالباً في مقر الحكم بالقلعة، يتناولون من خلالها سيرة الرسول من مولده وجهاده وحياته.

ويقول نبيل حنفي: "إن المولد النبوي وموالد الصالحين من آل البيت والأولياء كان بمثابة مدرسة للغناء والإنشاد تعلم فيها وتخرج منها عشرات ممن سبقت أسماءهم ألقاب مثل: المنشد، المطرب، الواعظ، المادح". وقد ذكرت كتب التاريخ والتراجم عدداً من هؤلاء الفنانين المطربين المميزين في المدائح النبوية مثل: أحمد بن محمد القرداح (المتوفى عام 1438م)، عبد القادر بن محمد الوفاي (المتوفى عام 1469م)، شمس الدين محمد بن حلة (1486م)، علي بن رحاب (1500م).

ومن الموشحات الأندلسية المشهورة التي كانت تغنى في ذلك العصر، موشحة مشهورة لابن زمرك (1333 - 1395م) منها: يا مصطفى والخلق رهن العدم/ والكون لم يفتق زمام الوجود.. مولدك المرقوم لما نجم/ أنجز للأمة وعد السعود". ويذكر ابن خلدون أنه بعدما شاعت الموشحات في الأقطار العربية بين الخاصة والعامة، بدأ العامة في تأليف مقطوعات من الزجل لم يلتزموا فيها بالقواعد العربية والموسيقية المعروفة، وكان من أشهر زجالي قرطبة أبو بكر بن قزمان (المتوفى في 1160م).

وتشير المجموعات الشعرية التي تضم هذا النوع الفني مثل كتاب "سفينة الملك ونفيسة الفلك" لشهاب الدين محمد بن إسماعيل بن عمر (المتوفى في 1857هـ) إلى أن المدائح النبوية كانت من أهم أغراضه. وقد ظل هذا الكتاب مصدراً رئيسياً للمداحين ينهلون من أشعاره وموشحاته وأزجاله ويتغنون بها. وتظل هذه النماذج المدونة هي الوحيدة المحفوظة التي تنتمي إلى عصر ما قبل اكتشاف الأسطوانة على يد توماس أديسون سنة 1877. فكثير من مطربي المدائح النبوية لم يدركوا هذه المرحلة، مثل الشيوخ: عثمان الناظر، عثمان بدوخ، المسلوب، خليل محرم، محمد الشلشموني.

بينما هناك من لحق زمن الأسطوانة وسُمعت أصواتهم وهم ينشدون مدائحهم، مثل الشيوخ: إبراهيم الفران، إسماعيل سكر، درويش الحريري، علي محمود، أمين حسنين سالم، وحسن خضر، عوض العربي. غير أن التلف أصاب كثيراً من تلك الأسطوانات بسبب الزمن والإهمال وسوء الحفظ.

ومع بداية الإذاعة المصرية في 31/5/1934، كان هناك اهتمام خاص بهذا الغرض الغنائي، ففي اليوم التالي لبدء الإرسال قدمت الإذاعة وصلتين من المدائح النبوية للشيخ علي محمود، مدة الوصلة الواحدة 40 دقيقة. ومن أشهر ما كان يغنيه الشيخ علي محمود، وسمعه الناس في الإذاعة المصرية: قصائد "قصة المولد النبوي" للإمام البرزنجي، و(المولد النبوي الشريف) لعبد الله بك عفيفي، وهمزية الإمام البصيري الشهيرة التي مطلعها: كيف ترقى رقيك الأنبياء/ يا سماء ما طاولتها سماء.


بعد ذلك، انطلق مطربو الإذاعة ينشدون في بث مباشر مدائحهم، وكانت "شافية أحمد" من أوائل أولئك المطربين حين غنت يوم المولد النبوي 12 ربيع الأول 1364هـ (25/2/1944م) قصيدة "ميلاد الرسول" للشاعر مصطفى عبد الرحمن وألحان أحمد صدقي، ومطلعها: غنت الدنيا نشيد الأمل/ وتبدت عن رجاءٍ مسعدِ.. فإذا الكون طروبٌ يجتلي/ طلعة اليُمن وعيد المولدِ.

كما كانت أم كلثوم من أشهر من غنى لهذه المناسبة، ولها في ذلك ثلاث قصائد مشهورة، جميعها من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي وألحان رياض السنباطي، وهي: "سلوا قلبي" سنة 1946، و"نهج البردة"، "ولد الهدى" (1949). ويذكر أن قصيدة سلوا قلبي، في أول إصداراتها، كانت تضم خمسة أبيات للشاعر محمد الأسمر، ختمت بها أم كلثوم الأغنية، وهي في تحية الملك السعودي "عبد العزيز"، ومنها: 
وكيف ينالهم عنت وفيهم
يدا ملكين بل روضين طابا
إذا "الفاروق" باسم الله نادى
رأى "عبد العزيز" قد استجابا
وهذه الزيادة المقحمة تخلت الإذاعة المصرية عن بثها منذ عام 1947.





وعلى الرغم من شهرة أغاني أم كلثوم التي ظلت تذاع في مناسبة المولد النبوي، فإن قائمة كبيرة من المطربين قد أذاعوا مدائحهم عبر الأثير، مثل: طقطوقة "يوم مولدك يا نبينا" (1946)، لحن وغناء أحمد عبد القادر، من كلمات حسين طنطاوي، "مولد الرسول" (1948)، لصالح عبد الحي، "المولد النبوي" (1949) لشافية أحمد. وموشحات وقصائد لمجموعة من المشايخ مثل الشيخ عبد السميع البيومي وطه الفشني وغيرهما.


ويلفت الناقد الفني الدكتور نبيل حفني إلى أن العصر الذهبي في إنتاج أغاني المدائح النبوية تمثل في عامي 1954 و1955، حيث ظهرت عشرات الأغاني في هذا الغرض. ومن أشهر أغاني المدح النبوي بعيداً عن الإذاعة، ما قدمته الأفلام السينمائية، مثل استعراض "يا ست نظرة" الذي شاركت فيه ليلى مراد في فيلم "ليلى بنت الفقراء" (1945).

كما غنت سعاد محمد ثلاث أغنيات في ثلاثة أفلام، أولها فيلم "أنا وحدي" (1953)، وفيه أغنية من تأليف صالح جودت، ولحن زكريا أحمد، مطلعها: "يا حبيبي يا رسول الله يا أغلى طموحي"، وفيلم "السيد البدوي" (1953)، من تأليف بيرم التونسي ولحن يوسف صالح، ومطلعها "سألت إلهي في حياتي نظرة"، وفيلم "الشيماء" (1973)، الذي ضم مجموعة من الأغاني الدينية، من بينها "كم شاق الدنيا مولده" تأليف عبد الفتاح مصطفى وألحان محمد الموجي.


وأيضاً من الأغاني المميزة التي تتحدث عن المولد النبوي الشريف أغنية تتر مسلسل "محمد رسول الله" (1978) لياسمين الخيام، من كلمات عبد الفتاح مصطفى وألحان جمال سلامة، ومطلعها: "محمد يا رسول الله.. يا حبيب الله".

دلالات

المساهمون