جبل "سانت ميشال": أعجوبة وسط الماء وتاريخ من الدم

جبل "سانت ميشال": أعجوبة وسط الماء وتاريخ من الدم

11 مارس 2019
ثالث معلم سياحي بعد برج إيفل وقصر فرساي (Getty)
+ الخط -
قبل الوصول عبر براري النورماندي (شمال فرنسا) إلى تلّ سانت ميشال، يطالعنا سرب من الطيور الآتية إلى الدفء. هنا يعلن الربيع قدومه الباكر وسط شمس تعابثها برودة بحر المانش. وبعيداً عن عواصم العالم، يجتمع كل يوم مئات الزائرين بين مرتفعات التل وبيوتها الصغيرة التي أقيمت حول الدير المهيب، لالتقاط الصور التذكارية، فهذه الزيارة بالطبع لا يمكن إهدار أي لحظة منها وتأريخها لا بد منه. أمام مدخل التلّ يعلو صوت الأطفال المبتهجين بأكواز البوظة وسندويشات "الكريب" الفرنسية، مختلطاً بصوت الدليل السياحي الذي يقدم لمحة تاريخية عن القلعة التي بنيت على مدى 600 عام قبل أن تصبح على ما عليه اليوم. ويعدّ التل الباهر، واحداً من أبرز الآثار المصنفة على قائمة "يونيسكو" للتراث العالمي منذ عام 1979.

ثالث أبرز معالم فرنسا
يعدّ التلّ ثالث أهم معلم سياحي يمكن زيارته، بعد برج إيفل وقصر فرساي في فرنسا. يزور التل المرتفع فوق الرمال كل عام أربعة ملايين سائح سنوياً، عبر جسر يربطه باليابسة بني عام 1880. وهو جسر طور اليوم ليستوعب أيضاً أسراب الماشية الآتية من المزارع القريبة، في منطقة النورماندي المشهورة بصناعة الألبان والأجبان. لكن هذا التل المليء بالتفاصيل التاريخية، وقصص سكانه القليلين الذين لا يتجاوز عددهم 45 شخصاً، يتحول إلى جزيرة بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر بعد حركة مدّ تحصل مرتين في اليوم. ويبرز بشكل كامل كأنه متربع فوق لون ذهبي لامع بعد حركة الجزر.



(Getty)


قلعة دينية
ينبه الدليل الزوّار من البلاط الحجري أثناء المشي، ومن الوقوف أمام السور الذي يزين التلة. محاذير تبدد تأففها المناظر الخلابة، حيث يمكن للواقف أن يرى البحر الواسع، ويستمتع بنسائم باردة قبل أن يتبدى له التاريخ بحضور هائل، فور وصوله إلى الدير والقلعة التي بنيت لحماية الرهبان من الهجمات البريطانية، ثم تحولت لاحقاً وبعد الثورة الفرنسية إلى سجن لهم. وتفصل الجزيرة الصخرية الحدود بين النورماندي الفرنسية وبريطانيا، وشهدت على حروب ومعارك كثيرة تاريخياً، إلا أنها حافظت على إرثها المعماري الفريد. فالدير الذي يصل إليه المتسلقون عبر منحدرات مائلة وأدراج صخرية، يحمل بصمات معمارية متمايزة. وهي على خلاف القلاع الفرنسية، إذْ كان الغرض من بنائها دينياً بحتاً.
وقبل بناء القلعة، كانت الكنيسة القديمة متربعة وحيدة وسط الجزيرة، وبنيت في مطلع القرن الحادي عشر، واحتجز فيها مئات الرهبان من قبل الإنكليز في حرب ضروس بين فرنسا وبريطانيا، وعرفت بحرب "المئة عام". ويقع هذا التلّ على بعد 0.6 ميل عن الساحل الشمالي الغربي لفرنسا، وتبلغ مساحته 100 هكتار. وبعد الثورة الفرنسية، وخلال الفترة بين عامي 1793 و1811، تم تحويل الجزيرة إلى سجن للرهبان، ليتم ترميمها لاحقاً سنة 1874. وتم تخصيص مبلغ بقيمة 20 مليون يورو لإنجاز الترميمات التي انتهت السنة الماضية وامتدت منذ عام 2007. 

(Getty)

الهرم المعماري
تاريخياً، شهدت الجزيرة تطوراً بنائياً خاصاً بها، إذ حوّلت التحصينات الكنيسة الصغيرة إلى ما يشبه الهرم. ومنذ القرن الثامن الميلادي، والجبل يلتف بالعمارة التي تشبه عمارة القلاع العسكرية، لكن ما يميزها أنها أكثر اتساعاً، وكأنها مسارب لحدائق معلقة. وبعد تشييد الدير بشكل عمودي، وأطلق عليه اسم "الأعجوبة" في القرن الثالث عشر الميلادي، أرفق ببرج عام 1609، ثم أضيف له سهم في قمته عام 1897. وهو ما جعل الجزيرة عبر ديرها وتحصيناتها تبدو كهرم، يعرف أيضاً في بعض الكتب التاريخية بـ"هرم سانت مون ميشال".
تقول رينيه بانون، وهي دليلة سياحية في الدير لـ"العربي الجديد"، بأن "الدير شهد فترة مهمة كمركز هام للحجاج المسيحيين، وهو ما دفع البعض إلى الاستقرار والعيش في التل. ومنذ 400 عام بدأ السكان بفتح مطاعم صغيرة وحوانيت لتأمين الشراب والنوم لزوّار الدير الذين يأتون لأداء صلاة على نية القديس ميشال". وتضيف أن القلعة تم الانتهاء من بنائها مع بداية عام 1521 بعد قرون من البناء المتراكم، موضّحة أنه بعد القرن السابع عشر، ساءت أحوال القلعة، وخف زوّارها بعد خفوت التأثير الديني في أوروبا، إذْ "كانت القلعة وديرها مركزاً دينياً مُهمّاً في أوروبا"، مؤكدة أن تحولها إلى "سجن بعد الثورة الفرنسية زاد من سوء حالها وعمارتها، إذْ استخدمت بشكل غير مدروس من قبل العساكر. لكن، كل هذا لم يدمر أي جزء منها، واستعادت لاحقاً بعد عام 1873 بعضاً من رونقها بعد الإقرار بترميمها".
الشوارع الداخلية للجزيرة (Getty)


الشارع الكبير
في الشارع الكبير (grand rue) كما يعرف، يتوزع السياح على طرفيه. شارع لا تزال مبانيه تحمل بصمات عمارة القرون الوسطى، وتتميز شبابيك البيوت المطلّة عليه بسياجها الخشبي الأزرق والأحمر، وتبرز النقوش الحربية والدينية منها بشكل ظاهر، ما يدفع الزوار إلى التقاط صور مختلفة لمريم العذراء أو القديسين أو بعض رجال العسكر والرهبان الذين نقشت صورهم على المباني بشكل مصغر. ويغصّ الشارع كل يوم بالمئات الذين يودون تذوق "الأومليت" الفرنسية التي تشتهر بها منطقة النورماندي، أو لشراء تذاكر وكتب دينية نادرة لا تزال بعض المكتبات تحتفظ بها.


تشتهر الجزيرة بـ"الأومليت" التي يتذوقها كل من يقصد المكان (Getty)

ومن هناك بعد صعود 900 درجة عبر السلم اللولبي الموزعة على أطرافه الحدائق والبيوت، نصل إلى الدير. مشهد مهيب للبحر والجزر الصغيرة، يجعل من الرحلة كأنها تجربة طيران فوق شاهق، وهنا لا بد من استراحة والتفكير بسؤال وحيد يخطر على بال المتسلقين يومياً: هل فعلاً هذه الأعجوبة بناها الإنسان فقط؟


دلالات

المساهمون