أفلام "كارلوفي فاري الـ54": عن السجن وتداعياته

أفلام "كارلوفي فاري الـ54": عن السجن وتداعياته

08 يوليو 2019
نيغروبونتِس في "زيزوتيك": البحث عن خلاص (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
السجن مُشتركٌ واحد بين 3 أفلام مُشاركة في الدورة الـ54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، يتمثّل بحصار تعيشه نفسٌ وروحٌ، أكثر مما يُدركه الجسد. أحداث أحد تلك الأفلام تدور بمعظمها داخل سجنٍ، لكن المأزق الفعليّ يتجلّى باختناقٍ ينقضّ على ذاتٍ فردية في مواجهة ضغط جماعة تحاصرها من الجهات كلّها. الفيلمان الآخران يعكسان عزلة نفسٍ وروحٍ في سجنٍ تُشيّده ظروفٌ أو أحداث، تظهر شيئًا فشيئًا خلال سرد حكائيّ، مُثقل بعنف مبطّن وغضبٍ مخفيّ، وهذا ما تصنعه سينما تستلّ حكايات ومسارات ومصائر من واقع ويومياتٍ، وتعتمد ـ في الوقت نفسه ـ على المواربة والاحتيال الجماليَّين في قراءة هذين الواقع واليوميات.
 
"الرقيب" (2018) للتركي سرهات كِراسْلان يُظهر السجن بمعنيين اثنين: شابٌ يعمل رقيبًا على الرسائل المُرسلة إلى المساجين، قبل أن يكشف هول السجن النفسي والانفعالي والاجتماعي الذي يُقيم فيه هو أولاً، وزوجة أحد المساجين ثانيًا. مع "زيزوتيك" (2019) لليوناني فارديس ماريناكيس و"قصيدة غنائية للاشيء" (2018) للفيليبّينية دُوِين بالتازار، يبرز السجن بصُورة معنوية قاسية، إذْ ينهار أفرادٌ عديدون جرّاء مصائب تتتالى عليهم، فيهيمون في تفلّت حادٍ من كلّ منطق أو وعي، أو في متاهة بحثٍ ملتبس وغامض عن خلاص معلَّق ومبتور.

في السجن، تتداخل تفاصيل عديدة في سيرة الشاب، الرقيب والطالب الذي يُتابع بشغفٍ دروسًا في الكتابة الأدبية، والمُقيم مع والدته في منزلٍ يُقفل بابه الرئيسيّ بالحديد. فمن قراءة الرسائل كلّها، والتدقيق العميق بين السطور ووراء الكلمات، كي لا تتسرّب "رسائل مبطّنة" تشي بأعمال جُرميّة مختلفة؛ إلى متابعة دؤوبة لآلية التأليف الأدبيّ؛ يعيش زاكير (بركاي آتيس) في عالمٍ مُضعضع ومرتبك وغير سوي، إنْ داخل منزله العائليّ بعد رحيل الأب، وإنْ في علاقة صداقة غير متمكّنة من تعويضه عن فراغٍ وإحساس بمسؤولية ما إزاء امرأة تعاني آلامًا داخلية يتنبّه إليها، وإنْ في مهنته التي توقعه في حيرةٍ بين "شطب" كلمات وجمل من رسائل مختلفة، وكتابة كلمات وجمل في نصوص أدبيّة.

خارج السجن لن يكون أفضل من داخله. سونيا (مارييت سوبونغ) تدير محلاً لبيع التوابيت وأغراض الجنازة والدفن، وتُقيم مع والدها رودي (جووني غامْبُوَا) في منزل يعلو المحل. ياسون (أوغست لامبرو ـ نيغروبونتِس)، ابن الأعوام الـ9، يعيش مع والدته (بينيلوب تْسيلوكا)، التي تتخلّى عنه وتنصرف إلى انهياراتها الخاصّة، فيجد نفسه في منزل فقير ومعزول في غابة، مع مالكه ميناس (ديميتريس كْزانتوبولوس). المشترك بين الفيلمين ("قصيدة غنائية للاشيء" و"زيزوتيك") كامنٌ في أنّ اللاواقعي واللامعقول خلاصٌ (أو ربما وهم خلاص) من قسوة عيشٍ وتمزّقات وقلق واضطرابات. فسونيا تعثر في جثة عجوز على ما تصبو إليه طويلاً: ارتباط بنموذج مفقود لأمٍ مفقودة. بينما ياسون وميناس يهيمان في غابة يملأها الثلج، بحثًا عن دبّ، قبل أن يختفي ميناس ويظهر الدبّ وهو يعطف على ياسون ويحميه.

لكن زاكير محتاج بدوره إلى لاواقع ولامعقول كي ينجو من ضغط اجتماع وسلطة، لن يكترثا بأهوالٍ يعيشها فردٌ مغلوبٌ على أمره. فعندما تطلب منه صديقته أنْ ينسى المسألة برمّتها، بعد تبيان عجزه المطلق عن القيام بما يشعر به إزاء الزوجة الشابّة، يوافق معها خانعًا إذْ لن تكون لديه إمكانية إنقاذ (للشابّة) أو خلاص (له). الاستسلام المطلق للغرائبيّ دربٌ إلى اندثار كلّي في اللامتوقّع واللاحقيقيّ، كخلاصٍ ربما يكون معلّقًا أو غير مُنجز بالكامل. فسونيا تفشل في الحفاظ على الجثّة، المتحوّلة أمامها إلى كائنٍ يُعرّيها أمام ذاتها من دون أن تنتبه إلى التعرية هذه؛ بينما يفشل ميناس في ردم الهوّة بين ياسون ووالدته، بعد اكتشافه أنّ الأمّ تُقيم علاقات جنسية مع رجال يطلبونها، ويعجز عن التصدّي لسطوة أناسٍ يعمل لديهم، فيُرافق ياسون في الرحلة الأخيرة إلى الغابة والثلج والدبّ.

الكاميرا هادئة في التقاط يوميات سونيا، ومتمكّنةٌ في الوقت نفسه من تعرية ذاتها وهواجسها ومخاوفها واضطراباتها، بألوان مائلة إلى الرماديّ، رغم طغيان الأسود والأبيض كلغة بصرية (نِلْ دازا). وكاميرا "الرقيب" (ميريام يافوز) مكتفية بمتابعة الدقائق والتفاصيل الجانبية للحكاية، بتركيز على شخصية زاكير أساسًا، في مختلف حالاته وتصرّفاته وسلوكه. وكاميرا "زيزوتيك" (كريستينا موموري) تتفاعل وتبدّلات جمّة تمرّ بها سِيَر شخصيات تنفصل عن بعضها بعضاً بإرادة ووعي، أو تلتقي صدفة، فيُنجز فيلمٌ يغوص في ألم ذات وهواجسها، وفي مواجع روحٍ وتقلّباتها.

تنعدم الفواصل بين المعاني المختلفة للرقابة، بعد انتقال زاكير من وظيفته كرقيبٍ على الرسائل إلى حساسيته كرقيبٍ على أحوال الزوجة، مُتصدّعة الروح والنفس، في "الرقيب". وتنعدم الفواصل بين الحالات الانفعالية المضطربة والقلقة والمُتعَبة، التي يعيشها ياسون وميناس، في "زيزوتيك" (الفيلمان معروضان في مسابقة "شرق الغرب"). وتنعدم الفواصل بين واقع مُعطَّل ومتخيّل ملتبس وروحانيّات مبتورة وملموسٍ غامض، في سيرة سونيا، غير المتردّدة عن اختراق غابةٍ، تذهب بها إلى ما وراء الواقع، فتختفي بها كي تتماهى مع رغباتها الموؤودة، في "قصيدة غنائية للاشيء" (المسابقة الرسمية).

المساهمون