سوق الحميدية: عراقة التاريخ وتراث الصناعة

سوق الحميدية: عراقة التاريخ وتراث الصناعة

29 مايو 2015
تشغل السوق حالة اجتماعية متميزة (جوزف عيد/فرانس برس)
+ الخط -
تعود تسمية سوق الحميدية، القابع في قلب دمشق، إلى السلطانين العثمانيين عبد الحميد الأول والثاني؛ فالسوق بني على مرحلتين وكل مرحلة في زمن أحدهما، الأولى كانت عام 1780 في عهد عبد الحميد الأول مكان السوق القديم الذي كان معروفاً بسوق الأروام، والثانية في عهد عبد الحميد الثاني عام 1884 كعملية توسيع للجزء الأول. ومع انتهاء بناء الاثنين سميا معاً بسوق الحميدية.
يشق السوق طريقه عبر دمشق القديمة حتى ينتهي بالجامع الأموي، بطول 600 متر، وبعرض خمسة عشر متراً، تميزه القناطر المعلقة، ويصطف على جانبيه عدد من الأعمدة الأثرية، أرضيته مبلطة بالبازلت الأسود، وسقفه مغطى بألواح معدنية مقوسة من التوتياء والحديد، فيها ثقوب تنفذ منها أشعة الشمس، لتبدو خيوطاً ذهبية تنساب برفق؛ مانحة الدفء شتاء وكاسرة عتمة السوق نتيجة تغطيته؛ فقد حلت هذه الألواح محل الخشب الذي استبدل في عهد الوالي حسين ناظم باشا، تفادياً للحرائق التي كانت تنال منه، وتلك الثقوب حدثت نتيجة الرصاص الذي كان يطلق في حفلات الأعراس الشامية، وكان له نصيب وافر في كتب الرحالة الذين زاروا دمشق والشرق بشكل عام؛ فما من أحد رآه، إلا وفتن بأصالته التي تسر الناظر وتنقله إلى عالم التراث الدمشقي الأصيل، فوصفوه أجمل الأوصاف، متحدثين عن اتساعه وعن كونه مدينة تجارية صناعية مصغرة في قلب دمشق، وبأنه سيد الأسواق وأعرقها وأكثرها روعة، إذ يعد عصب الحياة الأساسي للمدينة القديمة، ويتفرع منه عدد من الأسواق المتخصصة بمواد معينة؛ والتي يزيد عددها على العشرين سوقاً، ومن هذا التخصص يسمى السوق، وتتناثر على جانبيه المحلات المتنوعة التي يزيد عددها على 200 محل؛ إذ تلبي مختلف احتياجات الناس، وتصل أسعارها إلى آلاف الدولارات؛ فالسوق غدا منذ القرن التاسع عشر مركزاً تجارياً هاماً، ورئة دمشق التجارية التي تتنفس منها؛ فهو نهر تلتقي فيه فروع الصناعات الدمشقية القديمة التي طافت شهرتها أنحاء الأرض؛ فتراه يمتلئ بالتراثيات، وتحسبه متحفاً جامعاً للموزاييك والأغباني والدامسكو والتحف التراثية والمصنوعات الشرقية والنحاسيات والأرابيسك، وفيه المحلات التي تبيع الملابس بكل أنواعها الحريرية والقطنية، وللصناعات التقليدية القديمة المختلفة مكانة بارزة فيه؛ فهي ما زالت تحتفظ بالطريقة اليدوية في الصنع، وتنتشر المحلات التي تبيع بضائع متنوعة من أحذية وأدوات الزينة ومنسوجات ومطرزات وسجاد.
تشغل السوق حالة اجتماعية متميزة، بالإضافة إلى كونه مركزاً اقتصادياً، حيث ينتشر الباعة الجائلون؛ حاملين سلعاً مختلفة، ويبيعون أكلات تراثية، وتنشط هذه الحالة في شهر رمضان بشكل خاص؛ إذ يعيش أجواء رمضانية مفعمة بالحياة، وتجد المشروبات التي تطفئ عطش الصيف كالتوت الشامي والتمر الهندي والعرقسوس الذي يقدمه رجل يرتدي زيه التقليدي، كاشفاً التراث الحقيقي والبيئة الدمشقية العريقة التي تعم أرجاء السوق، فدفع ذلك بعض المطربين إلى التغني به وإنشاء أغانٍ تراثية مرتبطة به لأنه ملجؤهم في العثور على تفاصيل حياتهم التراثية، ولا بد من تناول البوظة الشامية العربية التي ما زالت تصنع بطريقة تقليدية منذ أكثر من مائة عام، على الرغم من دخول الآلة إلى هذه الصناعة.
لسوء الحظ تعرض السوق إلى الكثير من الحرائق التي كانت تدمره باستمرار، لكنه لا يلبث أن ينهض من جديد؛ نافضاً ركام تلك الحرائق عن كتفيه، وأشهر هذه الحرائق؛ حريق حدث عام 1911 أتى على الكثير من المحلات، وخرب منشآته، وفي عام 1920 اشتعلت النيران في السوق واستمرت ثلاثة أيام، ومعظم الحرائق التي كانت تحدث في الجامع الأموي غالباً ما كانت تمتد إلى السوق ملتهمة محلاته.
في عام 1914 أمر جمال باشا بهدم عدد من المباني والمحلات في السوق، بهدف الربط بين شارع جمال باشا (شارع النصر حالياً) بمنطقة المسكية قرب الجامع الأموي، لكن هذا العمل لم يكتمل لنشوب الحرب العالمية الأولى، فأعيد بناء الأجزاء التي هدمت بعد خروج العثمانيين من دمشق.
في عام 2004 أعيد تأهيل وتجميل السوق ليعود له وجهه الأصيل، وأزيلت الإشغالات والتراكمات التي كانت تغير ملامحه ومعالمه، ومع هذا الترميم ردت الروح التاريخية للصناعات الدمشقية الخالدة فيه، وصارت أكثر تفاعلاً وانسجاماً مع بيئته.

المساهمون