أفلام لبنانية في المكسيك: ذاكرة وراهن

أفلام لبنانية في المكسيك: ذاكرة وراهن

23 يوليو 2018
نادين لبكي في "هلأ لوين؟" (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
يحتفل "مهرجان غواناخواتو السينمائي الدولي (المكسيك)" بالسينما اللبنانية. يُخصِّص حيّزًا كبيرًا لنتاجات مستلّة من فترات زمنية مختلفة، تُقدِّم شيئًا من وقائع المسار التاريخي لـ"صناعة" غير مكتملة، رغم غزارة الإنتاج الراهن تحديدًا. تجمع الأفلام المختارة بين أساليب متناقضة، لكنها تتكامل في رسم ملمحٍ ثقافي ـ فني ـ جمالي لصورة سينمائية منبثقة من أحوالٍ ومحطّات وتحدّيات. فالسينما اللبنانية تواجه، منذ بداياتها الأولى في نهاية عشرينيات القرن الماضي، كمًّا من المصاعب غير القادرة على أن تحول دون استكمال المسار التاريخي نفسه بتحقيق إنتاجٍ وفيرٍ، خصوصًا عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 إبريل/ نيسان 1975)، وفي أعوامها المضطربة، كما في المراحل اللاحقة لنهايتها الملتبسة (13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990).

والمهرجان المكسيكي، الذي تُقام دورته الـ21 بين 20 و29 يوليو/ تموز 2018 في مدينة غواناخواتو (نحو 300 كلم. إلى الشمال الغربي من العاصمة المكسيكية)، يُنوِّع خياراته اللبنانية كي يتيح للمهتمّ مشاهدة نماذج متفرّقة عن اشتغالات يميل معظمها إلى المزج بين جمالية اللغة السينمائية وقسوة الحكايات والحالات والمواضيع المروية. والتنويع منسحبٌ أيضًا على الشكل، إذْ يضمّ البرنامج اللبناني أفلامًا روائية طويلة وقصيرة وأخرى وثائقية، بالإضافة إلى أمثلةٍ مأخوذة من نشاطات سينمائية تُحييها جمعيات أو شركات إنتاجية، أبرزها مهرجان "مسكون" للأفلام الغرائبية، الذي تتولّى "أبّوط للإنتاج" تنظيمه سنويًا.

الجمعيات وشركات الإنتاج والجهات السينمائية اللبنانية متنوّعة، أبرزها جمعيتا "متروبوليس" و"بيروت دي سي"، و"مؤسّسة سينما لبنان" و"جامعة سيدة اللويزة" و"نادي لكل الناس" وغيرها، علمًا أن لـ"الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)" دورًا في ترتيب بعض أمور الاحتفال اللبناني أيضًا. هذه كلّها متعاونةٌ على تحويل الدورة الـ21 إلى منصّة ثقافية وفنية تحرِّض على الاطّلاع على أحوال البلد في 60 عامًا، إذْ يُعرض "إلى أين؟" (1957) لجورج نصر، أول فيلم لبناني يُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ10 (2 ـ 17 مايو/ أيار 1957) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، إلى جانب Couting Tiles الوثائقي الجديد الذي أنجزته سينتيا شقير عام 2018. بينهما، تتوزّع المحطّات التاريخية على محاولات سينمائية تجديدية دؤوبة، لسينمائيين يتوغّلون في البنيان اللبناني، اجتماعيًا وحياتيًا ومسلكيًا وثقافيًا وإنسانيًا، ويجتهدون في كشف المخبّأ في الذاكرة الجماعية عبر حوار مباشر مع أفرادٍ متمكّنين من فضح بعض المبطّن أو كشف بعض المستور، وهما (المبطّن والمستور) يُراد لهما النسيان المطلق من سلطات متعاقبة تمنع كلّ مصالحة حقيقية، وترفض كل استعادة أخلاقية لوقائع وحكايات.



والأنواع السينمائية اللبنانية عديدة، وإنْ يغلب عليها الجانب الدراميّ في معاينة المواضيع المختارة. فالكوميديا قليلة للغاية، وإنْ تحضر في "فيلم كتير كبير" (2015) لميرجان بوشعيا الذي يتناول بيئة مسيحية في عصرٍ راهنٍ، كي يروي سيرة 3 أشقاء يتاجرون بالمخدرات ويهرّبونها في علب النيجاتيف السينمائي. وإذْ يعاين "إلى أين؟" حالة الهجرة اللبنانية إلى بلاد الاغتراب في المرحلة اللاحقة لانتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، فإن وثائقي سينتيا شقير يرصد حالة الهجرة أيضًا لكن القسرية، عبر متابعة أحوال لاجئين هاربين من بلدهم المشتعل بالحرب والموت والخراب.



الحرب اللبنانية حاضرةٌ، إذْ تبقى الموضوع الأكثر إثارة للاهتمام السينمائي رغم انفضاض لبنانيين كثيرين عنه بحجة أن "الحرب منتهية"، وهذا أبرز سؤال مطروح في الاجتماع اللبناني، خصوصًا أن الراهن يكشف مرارة الخضوع لمنطق الحرب وفوضاها وعبثيتها وعنفها، وإنْ بعيدًا من المعارك العسكرية. من "الإعصار" (1992) لسمير حبشي و"بيروت الغربية" (1998) لزياد دويري إلى "معارك حبّ" (2004) لدانيال عربيد، تَمْثُل تلك الحرب في صلب النواة الدرامية للحبكة والاشتغال والسرد، انطلاقًا من اختبارات ذاتية محضة للمخرجين في فترات حياتية سابقة لهم. وهذا في مقابل أفلامٍ منضوية في يوميات أفرادٍ يُقيمون في مدينة أو بلدة، ويعيشون روتينًا قاتلاً أو ارتباكًا حادًّا، ويبحثون ـ وإنْ بصمت ـ عن خلاصٍ أو راحة، ويسعون ـ بأساليب مختلفة ـ إلى اكتشاف هوية أو انتماء أو موقع، كما في "فلافل" (2006) لميشال كمّون و"طيب، خلص، يلاّ" (2011) لرانيا عطيّة ودانيال غارسيا و"ربيع" (2016) لفاتشي بولغورجيان و"يوم ببيروت" (2017) لنديم تابت مثلاً.


تأثيرات الحرب ماثلةٌ بدورها، وإنْ بشكلّ أقلّ، في مرحلة لاحقة على انتهائها. فـ"من السماء" (2016) لوسام شرف يروي شيئًا منها في عودة مقاتل سابق إلى منزله العائليّ، بعد غياب سنين مديدة. بينما إليان الراهب تفتح أحد ملفاتها في "ليالٍ بلا أرق" (2012)، بجمعها الرئيس السابق لجهاز الأمن القومي في مليشيا "القوات اللبنانية" (المسيحية) أسعد شفتري بالسيدة مريم والدة ماهر سعيدي، المقاتل الشيوعي الشاب الـ"مختفي" منذ عام 1982 أثناء إحدى المعارك في منطقة الشويفات، فالأول يُعتبر أحد أبرز القادة الميدانيين المطّلعين على ملف معلّق من ملفات تلك الحرب غير المنتهية، وهو "ملف المفقودين والمخطوفين".

في حين أن رنا عيد ستعود إلى جراح الحرب أيضًا، في "بانوبتك" (2017)، عبر بحثٍ سينمائي بديع في علاقتها بوالدها الراحل، الضابط السابق في الجيش اللبناني. التأثيرات جزءٌ من "وهلأ لوين؟" (2010) لنادين لبكي، التي تعتمد على حسّ فكاهي ساخر في سرد حكاية جماعتين لبنانيتين (مسيحة ومسلمة) مقيمتين في بلدة واحدة، كي تكشف حجم التشنّجات والصدامات الحاصلة في البلد. في حين أن "أرض مجهولة" (2002) لغسان سلهب يحاول لمس المواجع والتمزّقات والانهيارات الناتجة بمعظمها من حرب معلّقة وسلم أهلي ناقص وهشّ.

للبكي وسلهب أفلامٌ أخرى مختارة في البرنامج اللبناني: للأولى "سكر بنات" (2007)، وللثاني "الوادي" (2014) و"1958" (2009) وغيرهما. بينما لمحمد سويد واحدٌ من أجمل الأفلام الوثائقة وأهمها، "ما هتفت لغيرها"، الباحث في أحوال البلد وذاكرته وماضيه وراهنه. هناك أيضًا فيلم يشترك سويد مع سلهب في إخراجه عام 2018 بعنوان Le Voyage Immobile.

لكن الوثائقيات المختارة لن تكون كلّها معنية بالحرب الأهلية. فـ"تيتا ألف مرة" (2010) لمحمود قعبور يتوغّل في ذاكرة عائلية مرتبطة بالموسيقى والغناء، من خلال سرد حكاية المخرج وعلاقته بجدّته. بينما "النادي اللبناني للصواريخ" (2012) لجوانا حاجي توما وخليل جريج فيُلفت الانتباه إلى اختراع طالبي جامعي لصاروخٍ سيُقلق دول المحيط اللبناني، في خمسينيات القرن الـ20.

اللائحة تطول. لكن البرنامج اللبناني في "مهرجان غواناخواتو السينمائي الدولي" يُقدِّم تفاصيل سينمائية تجمع بين جماليات النص والمعالجة والشكل من جهة أولى، ووقائع المخفيّ أو الحاضر في وعي أو حالة.

المساهمون