سورية إلى "أوسكار": سينما لا سياسة فقط

سورية إلى "أوسكار": سينما لا سياسة فقط

17 يناير 2020
فراس فياض: توثيق سينمائي لمعنى المواجهة (باراس غريفين/وايرإيمدج)
+ الخط -
كما في كلّ عام، يتابع كثيرون أخبار جوائز "أوسكار"، بدءاً من اللائحة القصيرة، التي تُعلَن عادة قبل انتهاء العام (17 ديسمبر/ كانون الأول). ورغم أنّ هذه الجوائز الهوليوودية ـ التي تمنحها "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" (تمّ تأسيسها في 11 مايو/ أيار 1927) للأفلام الأميركية المُنتَجة والمعروضة في العام السابق لموعد منح الجوائز ـ تأتي ثانيةً في التوقيت السنويّ، بعد جوائز "غولدن غلوب"، التي تمنحها "جمعية الصحافيين الأجانب في هوليوود" منذ عام 1944، بعد عام واحد فقط على تأسيسها؛ ومع أنّ الـ"غولدن غلوب" نفسها أشبه بإعلانٍ غير رسميّ لبعض أبرز جوائز "أوسكار"؛ إلا أنّ الاهتمام الدوليّ منصبٌ على "أوسكار"، أكثر من الـ"غولدن غلوب"، ومن الجوائز السينمائية الأخرى، الممنوحة في دولٍ تمتلك صناعات سينمائية مهمّة، كفرنسا (سيزار) وبريطانيا (بافتا) وإسبانيا (غويا).

ورغم أنّ لـ"غولدن غلوب" حفلة استعراضية، بما فيها من "سجادة حمراء" وأضواء وكاميرات تلفزيونية وعدسات مُصوّرين صحافيين، والمُثيرة ـ في الوقت نفسه ـ لمتابعة مهنيّة لعاملين في صحف وإذاعات ومحطات تلفزيونية ووكالات أنباء؛ إلا أنّ حفلة استعراضيّة كهذه تجذب ملايين المُشاهدين في العالم، عندما يتمثّل الحدث بتوزيع جوائز "أوسكار"، التي تحتفل بنسختها الـ92 مساء الاثنين، 9 فبراير/ شباط 2020، بتوقيت لوس أنجليس. علماً أنّ هناك محطة أساسيّة تسبق حفلة ذاك اليوم: إعلان الأكاديمية لائحة الترشيحات الرسمية مساء الاثنين، 13 يناير/ كانون الثاني 2020.

نقّاد عديدون يُعلنون عدم اكتراثٍ بمفهوم الجائزة، إنْ تُمنح في المهرجانات أو خارجها، تماماً كسينمائيين وعاملين في صناعة الصورة، لقناعتهم بأنّ الجائزة الأهمّ للفيلم تتمثّل بمكانته في المشهد السينمائي أولاً، وبعلاقته بالمُشاهدين ثانياً، وبالسيرة المهنية والاشتغالات المختلفة لمخرجه، وللعاملين فيه، ثالثاً. مع هذا، فإنّ هؤلاء أنفسهم ينتظرون إعلان اللائحة الرسمية ثم توزيع الجوائز، إمّا لسببٍ مهنيّ، وإمّا لإشباع فضول، وإمّا لرغبةٍ في تبيان كيف تنظر الأكاديمية إلى الأفلام، وبعض الأفلام يبقى خارج اللائحتين مع أنّه أهمّ، سينمائياً وجمالياً ودرامياً وفنياً وتقنياً، من أفلام يتمّ اختيارها للترشيح الرسمي، أو لجائزة أو أكثر. بعض العرب يهجس بالمؤامرة: أفلامٌ عربيّة تحصل على ترشيحٍ رسميّ توضع في خانة "تلبية أجندات أجنبية"، بينما فوز فيلمٍ عربيّ بجائزة "أوسكار"، أو بغيرها من الجوائز، يؤكّد الهاجس هذا، بالنسبة إليهم طبعاً.

لعلّ هذا صحيح. لكنّ مفهوم الجائزة بحدّ ذاته يضع الأفلام وصانعيها والعاملين فيها في خانات ضيّقة. وما دامت الجوائز تُمنح سنوياً في مهرجانات واحتفالات، فإنّ النقاش لن يُحسَم، مع أنّ المُشاهدة (ومناقشة الأفلام) أهمّ وأعمق وأفضل. لكنّ المهنة الصحافيّة تتطلّب متابعةً وكتابة، وإنْ تكن غير معنيّة بإبداء رأي أو طرح أسئلة أو قول تحليل. والمهنة الصحافية، إنْ ترتبط بمؤسّسة عربية، تستدعي نقاشاً يتناول الجوائز وآليات منحها وما يسبق إعلانها أيضاً (ترشيحات أولى ورسمية)، خصوصاً عندما تُدرَج أفلامٌ عربيّة في اللوائح الأولى أو الرسمية، أو تحصل على جائزة أو أكثر.

هذا حاصلٌ غداة إعلان الترشيحات الرسمية لـ"أوسكار 2020"، مع اختيار فيلمين سوريين في فئة أفضل فيلم وثائقي طويل: "إلى سما" لوعد الخطيب (في حوارٍ لها مع "العربي الجديد"، منشور في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، تقول الخطيب إنّه لا يوجد عنوان عربيّ للفيلم، لكنّها تُفضِّل "إلى سما"، إذْ تشعر "أنّه الأقرب إليّ") و"الكهف" لفراس فيّاض. نقّاد عرب ينتقدون الفيلمين، منطلقين من مفهوم الأجندة وتلبية الشرط الغربيّ، ومتناسين أنّ لـ"أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" سياسات في العمل ربما تندرج في إطار أجندات ما، لكنّها (السياسات) تختلف غالباً عن تلك الأجندات، وتتنوّع بتنوّع الأمزجة والأهواء والأحوال العامّة في الولايات المتحدّة الأميركية أولاً، وفي علاقة الولايات المتحدّة بالعالم ثانياً. هذا لن يحول دون تنبّه إلى سعي مخرجين عربٍ إلى تلبية الشرط الغربيّ لبلوغ مراتب أو للحصول على منافع، والجوائز الأساسية، كـ"أوسكار"، عاملٌ "إيجابيّ" في هذا، تماماً كجوائز مهرجانات دولية ("السعفة الذهبية" في "كانّ و"الأسد الذهبي" في "فينيسيا" مثلاً).
لكنْ، يُفترض بهذا ألا يحول دون تنبّه آخر، يتعلّق بالجودة الفنيّة والدرامية والجمالية لأفلام عربيّة يتمّ اختيارها في اللوائح الأولى، أو في الترشيحات الرسمية، أو تفوز بجوائز. فالاختيار والفوز متأتيان أحياناً من متطلّبات غير سينمائية، وأحياناً أكثر ينبثقان من هاجسٍ سينمائيّ بحت.

يختلف الفيلمان السوريان أحدهما عن الآخر، في المستويات البصرية والجمالية والفنية. لن يكون صائباً النفي المطلق لمعنى اختيارهما، في هذه اللحظة، في لائحة الترشيحات الرسمية. النزاع الداخلي الأميركي، بسبب سلوك الرئيس دونالد ترامب، يزداد حدّة. مؤسّسات عديدة تُساهم في مواجهة أكثر الرؤساء تعرّضاً للشتم من أبناء البلد، و"أكاديمية هوليوود" إحداها. في الوقت نفسه، الموضوع السوري مُلحّ، فالصراعات/ المصالح الدولية أقوى من إيقاف حرب إبادة ضد الشعب السوري. في مناخٍ كهذا، لن يكون سهلاً تفادي "إمكانية" أنْ ترغب الأكاديمية في تأكيد مشاركتها في التصدّي لإدارة دونالد ترامب، فتعثر في الفيلمين السوريين على مُرادها.

الأهمّ كامنٌ في سؤال واحد: هل يملك الفيلمان الشرط السينمائي الوثائقي، بعيداً عن المضمون الثقافي والدرامي والسردي، على أهميته؛ أم أنّ الأكاديمية الهوليوودية غير عابئة بثنائية الشكل والمضمون، فالضروريّ بالنسبة إليها كامنٌ في إعلان موقفٍ؟ يتّضح أنّ لـ"الكهف" جماليات سينمائية يصعب التغاضي عنها، رغم قسوة المضمون. بينما وعد الخطيب غير مُدّعية "عبقرية" اشتغال، بقدر ما يُقرّ فيلمها بتواضع سينمائي، قياساً على أهمية توثيق لحظات مواجهة يومية ضد الحرب والقتل والتدمير.

المُشاهدة وحدها كفيلةٌ بتبيان الفرق السينمائيّ بينهما، خارج إطار الجوائز والتكريمات الأجنبية، المبتعدة أحياناً عن السينما كفعلٍ إبداعي غير متحرّر من السياسي والثقافي والجمالي والفكري والفني. وإذْ يشترك الفيلمان في توثيقهما أحوال مشفيين سوريين في حلب والغوطة، فإنّ الفرق شاسعٌ بينهما في أسلوب العمل والتصوّرات الفنية والتقنية والجمالية، لميل "الكهف" إلى إيجاد مساواة سينمائية بين جماليات الصورة وعمق التساؤلات المطروحة في يوميات الشخصيات الأساسية، وفي آليات مواجهتها حرب إبادة وسطوة ثقافة اجتماعية منغلقة ومتزمّتة؛ ولامتلاك "إلى سما" بساطة مرتبكة في تسجيل سيرة طبيب بعدسة/ عين زوجته.

أما الجوائز، فلحظة عابرة يُفترض بها ألا تكون دافعاً إلى قراءة نقدية يجب أن تُعنى بالسينما، بأبعادها وجوانبها ولغتها وامتداداتها وركائزها وتقنياتها ومسالكها.

المساهمون