"الجاهلية" لهشام العسري: استفزاز المُشاهِد

"الجاهلية" لهشام العسري: استفزاز المُشاهِد

27 ابريل 2018
من "الجاهلية" لهشام العسري (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في "الجاهلية" (2018)، فيلمه الروائي الطويل الـخامس، اقتنص المخرج السينمائي المغربي هشام العسري (1977) لحظات مشبعة بالمعاني، ووزّعها على 90 دقيقة، يُثري بعضُها بعضَها الآخر. لجأ إلى محاكاة سوريالية موجعة لمتفرّج راضٍ على وضعه وعالمه. في الفيلم، الذي أُنتج بإمكانيات قليلة، شخصيات عديدة: مخبولٌ يشتري حذاءً على أنه الحذاء المجيد، الذي قُذِف به الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في بغداد. رجل يشترط لونًا مُحدَّدًا في خطيب ابنته. مقهورٌ "يحقر" على حيوان صغير. طفلٌ يريد خروف العيد الذي ألغاه الملك. شعبٌ مهووس باللحم في عيد الأضحى، وفي أرداف شابة نحيفة صارت معقّدة لأن لديها جسدًا معتلاً، لكنها ليست عَجْزاء مدْبرة، كسعاد كعب بن زهير.

في منتصف ثمانينيات القرن الـ20، منع الملك الراحل الحسن الثاني المغاربة من ذبح أضحية العيد، بسبب الجفاف. ذبح الملك نيابة عن الشعب كبشين أقرنين. كشف القرار أزمة اللحم في المجتمع المغربي. يغضب طفلٌ ويقول لأبيه: "الملك عنده اللحم دائمًا. نحن لا". لا يستطيع الأب المقهور مخالفة القرار الملكي.

الفيلم مزيجٌ من الواقع والعبث الصادم. يؤشّر إلى وتيرة عمل هشام العسري، الأسرع بين المخرجين المغاربة في تحقيق الأفلام. أخرج 3 أفلام روائية طويلة في 3 أعوام. أفلام جريئة، تُناقض تمامًا الخط الكوميدي السطحي الذي يتبعه المخرج في تعامله مع التلفزيون الموجَّه إلى العامة.

أين تكمن الجرأة؟ في تصفية الحساب مع عهد الحسن الثاني، باستخدام خطابه في "جوّع كلبك" (2015). في فيمله التالي، "ضربة في الرأس" (2016)، قدّم المرحلة من خلال عين شرطيّ، أي من خلال شخص يخدم النظام ولا يعارضه.




تحضر السياسة في الأفلام المغربية كجزءٍ من الماضي لا الحاضر. تتناول "سنوات الرصاص" في عهد الملك الراحل. هشام العسري حذرٌ بتركيزه على موظّف صغير في "ضربة في الرأس". ليس في الفيلم لقطة بالضبط ضد الحسن الثاني. لكن أجواءه العامة دالّةٌ. تركيزٌ على الشرطي والمقدَّم، وعلى موظَّفين صغِيرين. تصوير والي فاسد "بجلالة قدره" لن يحصل في الأعوام الـ20 المقبلة. فالوالي يصير وزيرًا للداخلية، كما هو حاصل حاليًّا.
بسخريته المتكرّرة، يمسّ هشام العسري وترًا حسّاسًا لدى المغاربة: تقديرهم الغامض للحسن الثاني، الذي شيَّد دولة تتصدّى للفوضى. لذا، تمنّى كثيرون منع أفلامه. لكن السخرية السوريالية غير مقلقة للسلطة، ما دامت أفلامه لا تحقِّق أية أرقام في القاعات، وتُسحب من العروض التجارية في الأسبوع الأول، غالبًا. هذا إنْ وُزِّعت أصلاً.

تجري أحداث "الجاهلية" في فيلا على حافة هضبة. لذا، يظهر ما حولها صغيرًا من فوق. تدلّ الجاهلية على زمن وسلوك مريرين، كوأد البنات اللواتي صرن حرائر. يزعم هشام العسري أن الجاهلية مستمرة، والسلوك العدواني تجاه النساء مستمر. في الفيلم، امرأة مربوطة بوتد، كلّما اقتلعته لتهرب، يُرجعها الحارس إلى زوجها. جاهلية هشام العسري تصدم المتفرّج الفطري بلقطات منفرة وحادة، ومهينة للذوق التقليدي خاصة.

يحكي هشام العسري قصّة لحم وحذاء ودمية. من خلال هذه "الأيقونات" الـ3، نكتشف أشكال "الحقرة" في المجتمع المغربي. مجتمع يطبِّع مع العنف اليومي، إلى درجة لم يعد يلاحظه. فـ"الجاهلية" فيلمٌ عن بشر "حقار"، حيث الفرد يستعلي على من هو أقلّ منه، ويسحقه كخنفساء. "الحقرة" (أو "الحكـرة") مصطلح سياسي متدَاول في شمال أفريقيا، تسبّب في احتجاجات كثيرة. في "الجاهلية"، كلّ واحد "يحقر" ويلتهم مَنْ تحته، كما في السلسلة الغذائية الطبيعية. تنتهي السلسلة لدى بطل الفيلم (حسن باديدة)، الذي "يحقر" على دجاجة. البطل عامل مقهور ينفّذ أوامر شخص يحتجز زوجته كي لا تهرب مع صديقتها. في لحظة غضب وعجز أمام ابنه، الذي يطلب اللحم، "حقر" دجاجته. النتيجة أن المشاهدين "الحقار" يحزنون على الدجاجة، بينما يموت 10 مغاربة ويجرح مئات منهم يوميًا في حوادث سير.

هذا العنف الفادح تُبرزه كاميرا هشام العسري بشكل عبثي. المحتوى السياسي للّقطات مستَفِز. يفكر المخرج أن مهنته بالكاميرا، لذلك لا يقدِّم الخام. واضح أنه لم يُشفَ بعد من تصفية حسابه مع عهد الحسن الثاني.

في "الجاهلية"، ثراء بصري ودلالي، وسخرية مريرة، وقصص متجاورة ومفكّكة لكنها ساخرة. سوريالية تحاكي الواقع بشكل مبالغ به كي تصدم المتلقي. قبل بدء عرض الفيلم في الدورة الـ19 (9 ـ 17 مارس/ آذار 2018) لـ"المهرجان الوطني للفيلم بطنجة" (المغرب)، أخبَرَتْ المنتجة لمياء الشرايبي الجمهورَ أن "الجاهلية" ليس سينما نظيفة. كثيرون بقوا بسبب الفضول والشوق إلى رؤية اللذة. في النهاية، خرجوا غاضبين. استفزّهم هشام العسري بشكل غير مسبوق. أزعج التمثّلات السائدة لديهم. هدّد عالمهم النظيف الموجود في قلوبهم، لا في الشارع.

دلالات

المساهمون