وهم استدراج إسرائيل إلى "الدولة الواحدة"

وهم استدراج إسرائيل إلى "الدولة الواحدة"

17 يناير 2017
+ الخط -
تعالت في الساحة الفلسطينية، أخيراً، أصواتٌ تدعو إلى الرد على تهاوي فرص تطبيق حل الدولتين بـ "استدراج" الكيان الصهيوني إلى خيار "الدولة الواحدة"، بالاستسلام "المدروس" للسياسة الاستيطانية الصهيونية، وترك المشروع الاستيطاني يتعاظم حتى يفضي عملياً إلى اشتباك ديمغرافي فلسطيني يهودي مطلق، يضع إسرائيل في النهاية أمام خيار "الدولة الواحدة" الذي ينزع عنها طابعها اليهودي بسبب التفوق الديمغرافي الفلسطيني. ولم يعد تشرّب هذه الفانتازيا مقتصراً على شخصيات نافذة في السلطة الفلسطينية وحركة فتح، بل بات عابراً للتباينات الحزبية والأيديولوجية، بحيث باتت بعض النخب المرتبطة بالتيار الإسلامي تروّج هذه الفكرة. ولسان حال المراهنين على وهم "الدولة الواحدة" عملياً يقول إنه بالإمكان الاستكانة ومواجهة الكيان الصهيوني بفراغٍ من الفعل، على اعتبار أن هذه "الإستراتيجية" "ستوقع إسرائيل في شر أعمالها".
عكس طرح هذه الفكرة تأثر أصحابها باتجاهات الجدل الإسرائيلي الداخلي بشأن تداعيات الاستيطان اليهودي في الأراضي المحتلة على مستقبل الكيان الصهيوني. لكن أصحاب هذه الدعوات عجزوا عن إدراك طبيعة وظروف البيئة التي تفاقم فيها الجدل الإسرائيلي الداخلي بشأن تأثيرات المشروع الاستيطاني، ما جعلهم ينتهون إلى هذه الاستخلاصات الموغلة في بؤسها ورداءتها. فقد تلقف هؤلاء التحذيرات الصادرة عن بعض قوى اليسار الإسرائيلي (معظمها غير صهيوني) من أن حماسة قوى اليمين الحاكم وأطياف من الوسط في تل أبيب لضم الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها لإسرائيل، بعد فوز دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، يعني أن إسرائيل مستعدة بصراحة لتطبيق نظام فصل عنصري، يقنن حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية والسياسية والإنسانية، ما سيدفع المجتمع الدولي، في لحظةٍ ما، إلى التحرّك لإجبار إسرائيل على التخلي عن هذا النظام ومنح الفلسطينيين "حقوقاً متساوية". ونظراً لأن الثقل الديمغرافي يميل لصالح الفلسطينيين، فإن نخب اليسار الإسرائيلي هذه تحذّر من أن الفلسطينيين يمكن أن يتولوا عمليا حكم "الدولة الواحدة"، بعد انهيار نظام الفصل العنصري، تماماً كما أفضى انهيار الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى هيمنة الأغلبية السوداء على الحكم.

يتأثر الفلسطينيون من أصحاب هذه الدعوات، بشكل انتقائي، باتجاهات الجدل الإسرائيلي الداخلي، ويتجاهلون حجم الانهيارات الأيديولوجية في صفوف اليسار الإسرائيلي الذي تتبنى بعض نخبه هذه التحذيرات. لا حاجة إلى التذكير بالمقال الذي نشره في صحيفة هآرتس، قبل أيام، أ.ب. يهشوع، الأديب الصهيوني، الأكثر تماثلا مع اليسار الإسرائيلي، والذي كان من أبرز المحذرين من انهيار حل الدولتين ووقوف إسرائيل أمام خيار "الدولة الواحدة". فقد وبخ يهشوع نخب اليسار التي لاتزال تتشبث بحل الدولتين، ودافع عن ضم منطقة "ج" التي تشكل أكثر من 60% من الضفة الغربية، على أن يمنح الفلسطينيون في هذه المناطق "حقوقاً إنسانية" وحرمانهم من "الحقوق السياسية، حتى لا يتم تهديد الطابع اليهودي للدولة".
السؤال البديهي هنا: هل يمكن لشعبٍ تحت الاحتلال أن يتلقف خياراته الوطنية من بين ثنايا جدل مترف بين قوى أيديولوجية داخل الكيان المحتل؟. من حيث المبدأ، من الإساءة والغبن أن يعرض الفلسطينيون أنفسهم، بوصفهم شعباً يسعى إلى المساواة في الحقوق على أرضه، مع أولئك الذين اغتصبوا أرضه عنوةً، وصادروا حقوقه لكي يبنوا مشروعهم الإحلالي.
ولكن، حتى من منطلق الواقعية السياسية، فإن الرهان على ولادة "الدولة الواحدة" بفعل الوزن الكبير الذي قد يوليه المجتمع الدولي للاعتبارات القيمية والحقوقية، والافتراض بأن العالم لن يضفي شرعيةً على نظام فصلٍ عنصريٍّ مقنن في فلسطين، رهان لا يستند إلى أي أساس. فإن كان ترامب الذي سيمثل رأس المجتمع الدولي في نسخته الجديدة يتوعد العالم والمحافل الدولية بالثبور وعظائم الأمور، في حال تعرّضت إسرائيل لأي سوء، بسبب أنشطها الاستيطانية، فكيف يمكن توقع أن يتجند هذا المجتمع للحيلولة دون تكريس نظام الفصل العنصري. لم تتعهد الولايات المتحدة في عهد ترامب فقط بحماية إسرائيل وتوفير البيئة الدولية التي تضمن تعاظم المشروع الاستيطاني في أقل قدرٍ من الممانعة، بل زايد بعض أركان الإدارة الجديدة على إسرائيل، وانتقدوا "تقصيرها" في حسم مصير الأرض لصالح اليهود. فلم يجد السفير الأميركي الجديد اليهودي الحريدي، ديفيد فريدمان، غضاضة في مهاجمة حكومات اليمين في تل أبيب لـ "تردّدها" في ضم التجمعات الاستيطانية لإسرائيل؛ بل وسمح لنفسه بالمحاججة لإثبات أن الخوف من الثقل الديمغرافي الفلسطيني "مبالغ فيه".
ومن نافلة القول أن ظروف الواقع الإقليمي تسهم أيضاً في توفير البيئة التي تسمح لإسرائيل بأن تفعل ما يحلو لها، على اعتبار أن السلوك الصهيوني تجاه الشعب الفلسطيني ليس ضمن دائرة الاعتبارات الجدية التي تؤثر على علاقة الأنظمة العربية بإسرائيل.
لقد أفضت البيئتان الدولية والإقليمية والانقسام الفلسطيني الداخلي إلى ارتفاع سقف توقعات اليمين الحاكم في إسرائيل، بحيث لا يمكن لعاقلٍ أن يتوقع أن يسمح الكيان الصهيوني بالمسّ بـما يعتبرها "حقوقاً مطلقة" لليهود على الأرض الفلسطينية.
مشكلة المراهنين على خيار الدولة الواحدة تكمن في أن انتقائية تأثرهم بالجدل الصهيوني الداخلي تجعلهم يزهدون في الإحاطة بكل جوانب هذا الجدل، والولوج إلى الخلاصات الموضوعية. فلماذا لم يصل هؤلاء إلى استنتاجاتٍ معكاسةٍ عندما أفضت عملية الدهس التي نفذها الشهيد فادي قنبر، الأسبوع الماضي، إلى تعاظم الدعوات داخل إسرائيل للتخلي عن القدس الشرقية، على اعتبار أن هذه "وصفة" لتقليص لعمليات المقاومة. وقد مثلت عملية الدهس مسوّغاً إضافياً لوزير القضاء الصهيوني الأسبق، حاييم رامون الذي يرأس حركة تدعو إلى "التخلص" من الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية، للتدليل على مصداقية توجهه.
قصارى القول، لا بديل عن الخيار الذي يقنع المحتل بالكلفة العالية لاحتلاله. لا بديل عن المقاومة بأشكالها كافة.