الهروب من "أرض الجهاد" إلى الوطن

الهروب من "أرض الجهاد" إلى الوطن

10 يناير 2016
(بريشتينا: دار فائق كونيتسا، 2015)
+ الخط -
في مطلع شهر تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم وقّع الروائي الكوسوفي المعروف إبراهيم قدريو روايته "خارج السكة" بمعرض الكتاب في تيرانا، الذي يعتبر أهم حدث ثقافي في العالم الألباني حيث يتنافس فيه الكتّاب من ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا وجنوب صربيا والجبل الأسود على عرض آخر ما لديهم طمعا في نيل إحدى الجوائز العديدة التي تمنح في هذه المناسبة.

وكان قدريو قد حاز في عام 2012 على أهم جائزتين تقديرا لإنتاجه الروائي: جائزة "حازم شكريلي" في كوسوفو وجائزة "روائي العام" التي تمنحها جمعية القلم في ألبانيا.

يعتبر إبراهيم قدريو من جيل المخضرمين، ولد عام 1945 في قرية جيغر قرب الحدود مع صربيا، وقرأ في طفولته رواية "حينما بدأ العنب ينضج" للكاتب سنان حساني 1922-2010 التي صدرت عام 1957 واعتبرت آنذاك أول رواية ألبانية في كوسوفو، ولذلك يمثل قدريو الجيل الثاني الذي حلّق بالرواية إلى آفاق جديدة بعد الجيل المؤسّس. وكان من حظ الشاب قدريو بعد تخرّجه من كلية الآداب في جامعة بريشتينا في 1968 وممارسته للتعليم فترة بسيطة أن التحق بالصحافة في 1970 حيث عمل مسؤولا عن القسم الثقافي حوالي أربعين سنة في أهم جريدتين كوسوفيتين "ريلينيا" "زيري" حتى تقاعد في 2010 مما جعله يتابع المشهد الثقافي ويساهم في تخريج أدباء شباب أصبحوا معروفين فيما بعد.

بدأ اهتمام قدريو بالأدب مبكرا وأخذت نصوصه تُنشر خلال دراسته في الجامعة، حيث برز أولا كشاعر ثم عمل في مجال القصة ليبرز لاحقا كروائي. نشر قدريو أول كتاب له في 1969 "ليالي جبل كاراداك"، لذلك فهو يعد من جيل الستينات الذي جاء بعد الجيل المؤسّس للأدب الألباني في كوسوفو (أسعد مكولي، وحفظي سليماني، وسنان حساني، وآدم ديماتشي) ليدفع بهذا الأدب للحاق بالمستوى اليوغسلافي ثم الأوروبي. وهكذا بعد عدة مجموعات شعرية وقصصية نشر قدريّو روايته الأولى "زمن الحصاد" عام 1979 لتتوالى بعدئذ رواياته، كان آخرها "خارج السكة".

ومن الطبيعي أن يتنوّع إنتاج قدريو حسب الظروف السياسية. ففي بداياته الأدبية كانت يوغسلافيا التيتوية قد تحرّرت من الستالينية في السياسة والجدانوفية في الأدب، ولذلك لم يعد الكتّاب ملتزمين بالواقعية الاشتراكية، ولكن الرقابة الذاتية والخارجية بقيتا طالما أن يوغسلافيا كانت تعيش مرحلة القائد "الرئيس" مدى الحياة. ومع انهيار يوغسلافيا، التي انحسرت معها الأحلام والأوهام، عانت كوسوفو كغيرها من بطش ميلوشيفيتش 1989-1999 الى أن خرجت من سيطرة صربيا واستقلت. ومن هنا كانت عوالم الرواية تتنوع عند قدريو لتعبّر حينا عما كان مسموحا بـ"ميزان الصيدلي" ولتهرب حينا من الواقع إلى التاريخ لكي تسقطه بشكل ما على الواقع. ومن هنا أيضا سمحت هذه التنوعات بترجمة أعمال قدريو إلى عدة لغات سواء داخل يوغسلافيا السابقة أو خارجها كالإنكليزية، والفرنسية، والإيطالية، والرومانية، والتركية، والعربية.

أما عن روايته الأخيرة "خارج السكّة" فيمكن القول إنها مختلفة عما سبق، بل إنها الأولى التي فرضها الواقع الجديد ليس فقط في كوسوفو وإنما في كل البلقان، بعد التغيرات المتلاحقة من انهيار الأنظمة الشيوعية إلى موجة القومية ثم الدينية، وبروز الجماعات الإسلامية المتشددة المدعومة من الخارج التي "خطفت" الإسلام التقليدي الذي تعارف عليه المسلمون في البلقان منذ أن أسلموا قبل عدة قرون، لتروّج لإسلام متشدّد يدعو إلى "الجهاد" ويجنّد الشباب لأجل "االجهاد" في بلاد الشام والعراق.

تبدأ الرواية بلقاء أمينة مع جارتها المحامية التي تروي لها عن الجرائم الجديدة التي لم تكن تحدث من قبل في مجتمعهم، فهي تدافع عن "مجرمة" متهمة بقتل والدها لأنه كان يعتدي جنسيا عليها وعلى أختها، وعندما تروّع أمينة بذلك تذهب لزيارة صديقتها دافينه المتزوجة من أغرون لتكشتف بأن الأب لا يريد لابنته "دييّا" الدراسة في الجامعة بل يصرّ على أن تبقى في البيت وتتحجّب.

ومن هنا يبدأ الخط الدرامي للرواية ليعبّر عما يتلاحق بسرعة في المجتمع الكوسوفي الشاب. فالتقاليد الألبانية التي تقوم على التسامح والاختلاط وحتى التزاوج بين المسلمين والكاثوليك والأرثوذكس تواجه بأصوات جديدة تدعو إلى "الإسلام الصحيح" والحجاب وعدم الاختلاط وصولا إلى الجهاد والذهاب إلى القتال في "أرض الجهاد" بسورية والعراق.

وهكذا تنعكس هذه التغيرات السريعة في العقدين الأخيرين، وخاصة مع اندلاع الأحداث في سورية، على بطلة الرواية "دييا" Dija وهو اسم له دلالته فهو يعني المعرفة بالألبانية التي هي نقيض الجهل، فتبدأ تعترض على إصرار والدها على ارتداء الحجاب وتسأله ببراءة "كيف ستبدو الملابس الألبانية في البلاد العربية، وهل سيقبل أحد هناك بارتدائها"، ثم يتطور الاعتراض ضد رغبة والدها بعدم ذهابها إلى الجامعة وأخيرا بالقبول بـ"النصيب" الذي يختاره لها حسب "الدين الصحيح". ولكن دييّا تتعرف خلال ذلك على ابن حيّها "يون" الذي كان على وشك التخرج والذهاب إلى فيينا لمتابعة دراسته فيولد الحب بينهما، وعند أول لقاء بريء بينهما في المقهى يصادف وجود والدها فيه، فيقوم بمهاجمة يون لتأديبه وينتهي الأمر بإطلاق النار عليه وإرسال الإثنين إلى المشفى.

ومع هذا التطور تبدأ أحداث الرواية في الانفتاح على الموضوع الرئيس، وهو الدعوة الجديدة إلى الجهاد وتجنيد الشباب للذهاب إلى سورية للقتال هناك، حيث إن رجال الشرطة الذين جاؤوا لتفتيش بيت والد دييّا فوجئوا بالعثور على جوازات سفر ألبانية وتركية وعراقية وأسلحة وقوائم أشخاص، وبذلك يظهر أن والد دييّا ليس مجرد بائع كتب دينية في الكشك المجاور للجامع. ويبرز هذا جليا حين تزوره زوجته في المستشفى ويعترف لها بأنه قد "اهتدى" منذ فترة وأصبح عضوا في جماعة إسلامية تعمل على تطبيق الشريعة الإسلامية كان يمولها ابن رجل أعمال عربي وأنه أعطى وعدا لذلك الشاب أن يزوجه ابنته.

ومع هذا الاعتراف تبرز شخصية الشاب غسّان العربي (العريس) الذي يعتبر أن دييّا أصبحت زوجته بعد أن وعده والدها بذلك، وتأخذ الرواية منحى بوليسيا مع قيامه باختطاف دييّا والاحتفاظ بها في ضواحي العاصمة لإقناعها بـ"النصيب" ثم هربها إلى بيت حبيبها يون للحاق به قبل سفره إلى فيينا.

وما بين هذه الفصول تتضمن الرواية أيضا مشاهد لوسائل تجنيد الشباب والبنات تحت دعوة "الجهاد" وإرسالهم عبر طرق سرية إلى ألبانيا ومنها إلى تركيا، ومن هناك إلى مناطق "الدولة الإسلامية" في سورية حيث يكتشفون الواقع المغاير لما كانوا يتصوّرونه. ولذلك تستغرق الرواية في بعض فصولها بتصوير الصدمة والصعوبة وحتى التضحية لأجل الهروب من "أرض الجهاد" إلى الوطن الأم.

ويبدو بوضوح هنا أن الرواية كُتبت في السنتين الأخيرتين بعد أن أصبحت الصحف الكوسوفية تحفل بأخبار الجماعات الجهادية الجديدة في كوسوفو التي نجحت في تجنيد عشرات الشبان الكوسوفيين للذهاب إلى سورية، والقتال هناك باسم "الجهاد" وسقوط العديد منهم في المعارك أو تحت القصف. ومن هنا تأتي أهيمة هذه الرواية، حيث تُعتبر كوسوفو الدولة الرابعة في أوروبا من حيث عدد المقاتلين الموجودين في سورية، لتشرّح "الإسلام الجديد" الذي يتناقض مع الإسلام التقليدي الذي اعتاد عليه المسلمون منذ قرون باعتباره يمثل انحرافا أو "خروجا على السكة" التي اعتاد المسلمون على السير فيها فهم يشكلون نسبة 95% من سكان كوسوفو.

لذلك تستحق هذه الرواية الجديدة لإبراهيم قدريو أن تترجم إلى العربية كونها تعبّر من ناحية عن تجربة روائية طويلة، وتكشف من ناحية أخرى عن كوابيس مجتمع أوروبي بغالبية مسلمة من التطرف الديني الذي يأخذ به إلى المجهول.

أكاديمي كوسوفي/ سوري

اقرأ أيضا
الأزمة المقدونية ومخاوف تجدّد البلقنة
ألبانيا: بين الأورَبَة والسلفية

المساهمون