شرق أوسط مُحتار ... ومُحيّر!

شرق أوسط مُحتار ... ومُحيّر!

13 يوليو 2015
(باريس: دار لارماتان- مؤسسة البحث الاستراتيجي، 2015)
+ الخط -
لا يمكن فهم ما يجري في العالم العربي في السنوات الأخيرة دون الغوص في الإشكاليات الحقيقية التي تتصارع في أعماق هذه الرقعة الجغرافية التي رُسمت خريطتها وفق مخططات استراتيجية وسياسية خاضت بها تماوجات ما بعد الحرب العالمية الأولى (سايكس-بيكو)، ثم الحرب العالمية الثانية (قيام إسرائيل)، كما يوضح عبد النور بن عنتر، الأستاذ في جامعة باريس الثامنة (فرنسا)، في كتابه الصادر حديثا بعنوان "الشرق الأوسط، بحثاً عن نظام إقليمي 1945-2000". يضاف الى تلك التماوجات الخارجية الصراع الداخلي المزدوج بين فكرتين/ إيديولوجيتين أساسيتين: القومية العربية والطرح الإسلامي الرسمي من جهة (تمثلها القوى العربية المحافظة)، وصراع داخل الإقليم الأوسع (الشرق الأوسط)، بين مشروع قومي عروبي لإقامة منظومة إقليمية عربية ومشروع جيوسياسي (تدعمه فواعل إقليمية ودولية)، يستند على التوجه الإسلامي الرسمي، حيث سعى كل طرف لبناء نظام يخدم مصالحه، من جهة ثانية.

تناول بن عنتر، في كتابه، هذه الإشكاليات والتحري عن المشروع الذي يليق بالمنطقة أو تريده لها القوى الكبرى، وطرح فيه وجود الشرق الأوسط كمنظومة إقليمية ومساره منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى بداية الألفية الثالثة محللاً فيه نواتج التدخلات الخارجية وتأثيراتها، ونواتج الصراعات والتنافسات الداخلية الإقليمية. يتوقف بن عنتر مطولاً عند الإيديولوجيتين الأساسيتين اللتين تصارعتا لتحديد معالم النظام الشرق أوسطي، أولهما المشروع العربي الوحدوي برؤية قومية جامعة للتمايز العربي، والذي حمله قوميون عرب وناصريون، والآخر، مميّع لهذه الخصوصية العربية، وينتقل إلى إطار أوسع وبرؤية جيوسياسية من رسم القوى الإقليمية (إيران وإسرائيل وتركيا)، أو العالمية (القطبين الغربي والشرقي أثناء الحرب الباردة ثم الولايات المتحدة، أساساً، بعد 1989، سنة نهاية ذلك الصراع العالمي)، لكن بالاعتماد على حلفاء محليين يقولون بفكرة "الحلف الإسلامي" المدعومة غربياً بالنظر لعدائها للقومية العربية وللاتحاد السوفييتي آنذاك.

تدليلاً على الصراع بين الرؤيتين، يحلل المؤلف في كتابه تصورات تعكس الاختلاف، وأحياناً التناقض، في تفسير تسمية المنطقة ثم تعيين أقطابها والدول ذات الأدوار الثانوية، لكن ذلك لم يمنع من الاتفاق على أن ثمة دولتين برزتا لقيادة المنطقة: مصر الناصرية ذات التوجه العروبي اليساري، كزعيمة ليس فقط للمعسكر التقدمي العربي بل وللعالم العربي أجمع، والتي عرفت انتكاستين أجهضتا مشروعها (انهيار الجمهورية العربية المتحدة ـ الوحدة مع سورية) وهزيمة 1967. والسعودية، زعيمة المعسكر المحافظ، التي سعت إلى زعامة العالم العربي والإسلامي حاملة أيديولوجية إسلامية رسمية (الإسلام الرسمي)، من خلال مشروع "الحلف الإسلامي" للتصدي للمد القومي العربي ومعتمدة على تحالفات إقليمية مع قوى غير عربية ودولية مع الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة. انتهى التنافس بين المشروعين بانهيار المشروع القومي وتطور موازين القوى العربية لصالح الدول المحافظة الريعية، لا سيما بعد حرب 1973. إذ حل مبدأ "التضامن العربي" في أدنى حدوده، محل مطلب الوحدة العربية. ولعل ما يجمع الحقبتين "المصرية الناصرية" و"السعودية" هو فشلهما في تبوّء القيادة الإقليمية في المنطقة وتركها لقمة سائغة لمشاريع غير عربية، إسرائيلية في البداية ثم تركية وإيرانية. وبالرغم من التفاعلات الصراعية التي شهدتها المنطقة في ما أصبح يُعرف بالحروب العربية-الإسرائيلية إضافة إلى انخراطها في صراعات داخلية/ حروب أهلية وحروب مع الجيران (الحرب العراقية-الإيرانية ثم حروب الخليج المختلفة وصولاً إلى غزو العراق في 2003)، إلا أن قادة المنطقة، جمهوريات وممالك أو إمارات، لم يسعوا إلى الخروج عن مظلات الحماية الخارجية، الأميركية بأغلبيتهم إلى جانب تحالفات مع الاتحاد السوفييتي في عهد القطبية الثنائية، أو مع أوروبا بالنسبة لدول المتوسط الغربي، دول المغرب العربي. وبالتالي فإن الصراع بين هاتين الرؤيتين لم يتم إلا بوجود قضية مركزية قومية بداية، ثم إسلامية وهي "القضية الفلسطينية"، مع درجة عالية من التوظيف لهذه القضية من طرف مختلف الأطراف. وقد لعب النفط والريع الناتج عنه دوراً كبيراً في تحديد المنتصر في الصراع العربي البيني من أجل الزعامة، وهو ما تجلّى من خلال الصراع بين "الثورة" و"الثروة"، وما تلاه من إعادة صياغة لتجاذبات وتفاعلات المنطقة بين إرادة وحدوية وإرادة التطبيع في إطار إشكالية رسمت معالمها مصر السادات بتوقيعها لاتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام والتي ما زالت، إلى الآن، رمزاً لمعادلة صراعية بين "صقور" معادين تماماً للتطبيع و"حمائم" معتدلين ما زالوا يأملون في رضوخ إسرائيل وقبولها بمشروع السلام العربي لسنة 1982 في إطار معادلة "الأرض مقابل السلام".

أما على الصعيد الخارجي، فقد شهدت المنطقة رؤى متعددة لتحديد معالم النظام الشرق أوسطي سواء من القوى الإقليمية، وعلى رأسها إسرائيل وتركيا أساساً (باعتبارهما مواليتين للمشروع الغربي الأميركي ـ المدعوم أيضاً من أطراف عربية)، أو من القوى العالمية، وقد تجلى ذلك من خلال مبادرات عديدة جيوسياسية واقتصادية، سميت في الكثير من الأحيان بمبادرات "الشراكة"، هدفها الأول والأخير تحويل مسار رؤية النظام الشرق الأوسطي وبنائه باستبعاد المعطى القومي (العربي) بل وحتى الإسلامي، وتأكيد أهمية المعطى الاقتصادي لمنطقة تملك، وفق تلك الرؤى، كل مؤهلات العمل المشترك بعيداً عن الصراع وسعياً لاستبعاد القضية الفلسطينية بالسعي للتطبيع وإدماج إسرائيل في نظام جسوسياسي-اقتصادي أكبر.

تناولت فصول الكتاب التسعة تطور مشروع الشرق الأوسط بالتطرق للمسار المذكور بما تضمنه من فشل ذريع في إثبات الوجود العربي أمام مشاريع تحملها قوى خارجية (أميركا وأوروبا)، إقليمية (تركيا وإيران وإسرائيل)، فضلاً عن التقاطعات بينها. حيث تتسم مختلف المشاريع بـ"تجاهل" أولويات المنطقة الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وبعدم الاكتراث بقضايا خارجة عن مسلّمة ضمان أمن إسرائيل ورفض أي مشروع "عربي" بالتسليم بنجاعة المشاريع الإقليمية غير العربية ولعب أدوار الوكالة للمصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً.

وقد دلل بن عنتر على صحة فرضياته (التجاهل، عدم الاكتراث، وضمان الأولوية للمشاريع غير العربية...)، باستمرار "التأرجح" الغربي في تغيير الحدود الجغرافية للشرق الأوسط، وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة، ما يدلّ على أن المعطى "الهوياتي" أو "الحضاري" حاضر بقوة في النظرة إلى الإقليم/المنطقة.

إن ذلك التأرجح، إضافة إلى المصالح الاقتصادية الأكيدة المرفقة برغبة في التطبيع مع إسرائيل من خلال تلك المبادرات وتلك التسميات الموسعة، تارة، بضم الجمهوريات الإسلامية السوفييتية سابقاً إلى الإقليم الشرق أوسطي، والمضيقة تارة أخرى، لكن بتقسيم للإقليم (شرق أوسط وشمال أفريقيا)، دليل آخر على رؤية خارجية أمنية كلية للإقليم وعلى عدم التمكن من فرض الذات (نظام عربي) منذ الحرب العالمية الثانية، وقبول المصير المحتوم في ظل مسَلّمتين: الحماية الغربية من جهة، لكن بنظام شرق أوسطي، لا وجود فيه لمشاريع عربية لبناء قوة إقليمية. ومن جهة أخرى، محاولات خارجية لإنشاء منظمة شرق أوسطية تعوّض الجامعة العربية وتضم، جغرافياً، كل الدول الواقعة في "شرق أوسط كبير" وفق رؤية جيو-استراتيجية.
ممّا سبق، انتهى بن عنتر إلى نتائج مثبتة لصحة طروحاته، أي عمل الغرب على تحويل مسار الإقليم من إقليم صراعي إلى إقليم سلمي بوجهة اقتصادية لمشروع سلام ترعاه أميركا أساساً، وبمشاريع اقتصادية برعاية وأموال مشتركة غربية-عربية (خليجية)، ليساهم ذلك في انخفاض الدينامية الصراعية (في شقها العربي-الإسرائيلي). تجاذبات عدة تتصارع في المنطقة وتسير بها من خطين أيديولوجيين متوازيين ـ قومية وإسلامية ـ إلى خطوط أخرى عاكسة لرؤى جيوسياسية برزت مع تبني الأوروبيين والأميركيين لتعاريف مختلفة للمنطقة (جغرافية وجيوسياسية على التوالي)، إضافة إلى محاولات من منظمات دولية للتمييز بين شرق المنطقة (شرق أوسط)، وغربها (شمال أفريقيا)، لتحمل المنطقة مسميات عدة وفق تلك الرؤى، ما يدفع للاعتقاد أن نهاية التاريخ، وفق فوكوياما، تبقى لصيقة بالمنطقة، أي تبعيتها الدائمة وعدم إمكانية التخلّص من ثالوث مدمّر مركّب من التخلّف والتسلطية وعدم إمكانية الحصول على مقدرات لمواجهة التحديات الإقليمية.

عند النظر بعمق إلى التجاذب بين الرؤيتين العربية والشرق أوسطية للإقليم، فإن طرح الكتاب وبما انتهى إليه، يؤيد بحق، الميل إلى الانتصار لرؤية تحمل مشروعاً وترسم معالم لمؤهلات الاتجاه نحو منظومة شرق أوسطية بتسيّد غربي واضح وبوكلاء (مع توجه مستقبلي لأميركا نحو المحيط الهادي)، من خارج الدائرة القومية (إسرائيل وإيران وتركيا)، مع معطى آخر هام جداً، كما يوضحه المؤلف، وهو أن الصراعات العربية البينية كانت عاملاً حاسماً يفوق من حيث شدة الوقع في غالب الأحيان العوامل الخارجية. بمعنى أن ضعف المنظومة العربية لا يفسر فقط بالضغوطات الإقليمية والخارجية، وإنما وبالأساس بالصراعات العربية البينية والانكشاف الاستراتيجي للمنطقة العربية ككل.

(باحث وأستاذ جامعي من الجزائر)

دلالات

المساهمون