الانتخابات البريطانية: مقامرة جونسون على أبواب الخروج من أوروبا

الانتخابات البريطانية: مقامرة جونسون على أبواب الخروج من أوروبا

11 ديسمبر 2019
لم يف جونسون بوعود "بريكست" (بيتر نيكولس/فرانس برس)
+ الخط -
يتوجه البريطانيون، يوم غد الخميس، للإدلاء بأصواتهم في انتخابات عامة، هي الثالثة التي تخوضها بلادهم في غضون أربع سنوات، وتعد من الأهم في تاريخها الحديث، ليس لأنها تحسم مسألة خروجها من الاتحاد الأوروبي فحسب، بل أيضاً بسبب ما ترفعه الأحزاب المتنافسة فيها من أجندات ضخمة للتغيير الاجتماعي والاقتصادي، قد ترسم ملامح البلاد لعقود مقبلة. وتعكس هذه الانتخابات المبكرة، حالة عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه بريطانيا منذ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي ("بريكست")، الذي أجري في يونيو/ حزيران 2016. ويعود السبب المباشر وراء تنظيم الانتخابات البرلمانية الحالية في بريطانيا إلى فشل رئيس الوزراء بوريس جونسون في الحصول على دعم البرلمان لصفقته الخاصة بـ"بريكست"، والتي توصل إليها في الساعات الأخيرة من المفاوضات مع بروكسل. وكان جونسون قد ورث عن رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي حكومة أقلية محافظة، تضمن الأغلبية البرلمانية من خلال دعم نواب الحزب الاتحادي الديمقراطي الأيرلندي، إلا أنه خسر المزيد من النواب في الأشهر القليلة التي تلت توليه رئاسة الوزراء في يوليو/ تموز الماضي، بسبب الاستقالات أو الطرد من الحزب. كذلك فشل جونسون في دفع الحزب الأيرلندي للتصويت لصالح خطته لـ"بريكست"، ما جعل الطريق الوحيد للمضي قدماً هو إجراء انتخابات عامة تأتي ببرلمان جديد. وعززت استطلاعات الرأي قناعة رئيس الوزراء بضرورة التوجه إلى صناديق الاقتراع، بعدما منحت حزب المحافظين الأغلبية البرلمانية المطلوبة.

إلا أن وصول جونسون إلى رئاسة الوزراء الصيف الماضي بحدّ ذاته كان واحداً من أعراض الانقسام السياسي الذي تعيشه بريطانيا، ونتيجة فشل سياسات ماي. وكانت الأخيرة قد سعت إلى إيجاد حلٍّ وسط لمسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، يرضي نواب حزبها المنقسم على نفسه، لكنها فشلت مراراً بداية العام الحالي في إقناع البرلمان بالتصويت لصالح صفقتها، ما اضطرها إلى طلب تأجيل "بريكست" مرتين. وزاد من تعقيد الوضع حينها، صعود شعبية حزب "بريكست" بزعامة نايجل فاراج على حساب المحافظين، مستفيداً من نفور ناخبي الأخير عن حزبهم بسبب الأزمة الداخلية التي يتخبط فيها، إضافة إلى فشله في تطبيق الانسحاب بعد نحو ثلاث سنوات من تصويتهم لصالحه.

وكرست نتيجة انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو/ أيار الماضي تداعيات هذا الفشل، إذ نجح حزب "بريكست" في تصدر الأحزاب البريطانية في البرلمان الأوروبي، بينما حلّ حزب المحافظين خامساً. وأدى انسداد أفق التسوية التي سعت إليها ماي، إلى استقالتها من زعامة المحافظين ورئاسة الوزراء، وفتح باب المنافسة بين متشددي "بريكست" على خلافتها، وهي المنافسة التي أوصلت بوريس جونسون إلى داوننغ ستريت.



وكان جونسون قد تصدر مشهد "بريكست" منذ قيادته حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء، وسرعان ما تحوّل إلى أشد المطالبين بـ"بريكست" مشدَّد، يسمح لبريطانيا بأكبر قدر من الافتراق الاقتصادي عن أوروبا، من خلال خروجها من السوق المشتركة والاتحاد الجمركي الأوروبيين. وأدى خلاف جونسون المستمر مع ماي إلى استقالته من وزارة الخارجية، وهو المنصب الذي شغله في حكومتها صيف عام 2018، ليقود المعارضة لصفقتها الخاصة بـ"بريكست". وبعد استقالة ماي، خاض جونسون انتخابات خلافتها وفق تعهّد بالخروج من الاتحاد الأوروبي في الموعد المقرر حينها في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حتى وإن كان الثمن خروجاً من دون اتفاق.

إلا أن تشدد رئيس الوزراء البريطاني ساهم في ازدياد حدة الانقسامات داخل حزب المحافظين، مع وجود كتلة فيه من النواب المؤيدين لـ"بريكست" مخفف تُبقي بموجبه بريطانيا على علاقة اقتصادية وثيقة بالاتحاد الأوروبي. وتعارض هذه الكتلة، وإن كانت أقل عدداً من متشددي "بريكست"، قطعاً، الخروج من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق، وهو سيناريو ترى فيه ضرراً اقتصادياً كبيراً على بريطانيا. وبينما ضمّت حكومة ماي عدداً من هؤلاء، مثل وزير المالية السابق فيليب هاموند، ووزير العدل السابق ديفيد غوك، تخلص جونسون من كل من يخالفونه الرأي، مشكلاً حكومة من صقور "بريكست".

وحاول جونسون منذ تسلمه رئاسة الوزراء، نهاية يوليو/ تموز الماضي، تجنّب المواجهة البرلمانية، لإدراكه عدم امتلاكه الأغلبية المطلوبة لدعم أي من التشريعات التي تتقدّم بها حكومته، خصوصاً تلك المتعلقة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ومضت عطلة البرلمان الصيفية في شهر أغسطس/ آب الماضي من دون مواجهة. وقبل انتهائها بأيام، أعلن رئيس الوزراء عن نيّته تعليق عمل البرلمان لخمسة أسابيع ابتداءً من الأسبوع الثاني من سبتمبر/ أيلول، ليعود البرلمان للعمل في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول. وكان جونسون يأمل من خلال هذه الخطوة ألا يواجه البرلمان حتى تمكّنه من إيجاد اتفاق "بريكست" بديل، أو عندما يكون الوقت قد قارب على النفاد أمام أي تحرك معارض يعيق خططه بالخروج من الاتحاد الأوروبي في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول.

إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن حكومة جونسون، بعدما ألغت المحكمة العليا قرار تعليق عمل البرلمان. كما تمكّنت المعارضة البرلمانية من التنسيق مع المتمردين من حزب المحافظين من معارضي "بريكست" بلا اتفاق، ومنهم هاموند وغوك، وإجبار جونسون على طلب تأجيل موعد الانسحاب في حال لم يوافق البرلمان على اتفاقٍ بحلول موعده في نهاية أكتوبر.

ويرى جونسون في التوجّه إلى صناديق الاقتراع فرصة للتخلص من معارضيه داخل المحافظين. فقد كان دعمُ صفقته لـ"بريكست" شرطاً للترشح نيابة عن الحزب، وهو ما دفع العديدين ممن عارضوه من حزبه في البرلمان الحالي إلى عدم الترشح مجدداً أو دخول المنافسة كمستقلين.

ولا يقتصر سعي جونسون على التخلص من معارضيه المحافظين، بل يأمل أيضاً في الحصول على أكثر من نصف أصوات البرلمان، بما يضمن له أغلبية لا يضطر من خلالها إلى محاباة الأحزاب الأصغر، كما هو حاله الآن مع "الحزب الاتحادي الديمقراطي" الأيرلندي. وعلى الرغم من أن اتفاقاً بين المحافظين وهذا الحزب يلزم الأخير بدعم حكومة جونسون في البرلمان، إلا أن "الاتحادي الديمقراطي" كان عقبة في طريق إقرار صفقة جونسون بعدما أبدى معارضته لها، لما تشمله من إمكانية نصب للحدود الجمركية في البحر الأيرلندي بين الجزيرتين البريطانية والأيرلندية، بدلاً من أن تكون هذه الحدود في الجزيرة الأيرلندية فاصلة بين أيرلندا الشمالية والجمهورية الأيرلندية. ويعتبر "الاتحادي الديمقراطي" هذه الخطوة تنازلاً لا يمكنه القبول به، لما يحمله من احتمال فصل أيرلندا الشمالية عن بريطانيا.

كما يسعى جونسون لأن تبقيه الانتخابات خمس سنوات أخرى في رئاسة الوزراء، يستطيع خلالها تطبيق رؤيته الخاصة بمستقبل بلاده خارج الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن المحافظين هيمنوا على الحكومة منذ العام 2010، إلا أن التقشف الحكومي كان عنوان المرحلة وفق رؤية هذا الحزب للتعافي من تبعات الأزمة الاقتصادية عام 2008. وخلّفت سنوات التقشف أثرها على المجتمع البريطاني، وساهمت، وإن جزئياً، في صعود نجم جيريمي كوربن وتوليه زعامة حزب العمال منذ العام 2015. ويخوض "عمال" كوربن الانتخابات العامة بواحدة من أكثر البرامج الانتخابية العمالية يسارية منذ عقود، ما يضعه في موضع النقيض الكلي مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بالمحافظين.

هكذا يدخل بوريس جونسون الانتخابات العامة على أمل أن تمنحه أغلبية يستطيع من خلالها تطبيق وعوده بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ورسم مستقبل بريطانيا في السنوات المقبلة، في واحدة من أهم المحطات في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية. إلا أن مقامرته هذه شبيهة إلى حدّ كبير بمقامرة تيريزا ماي عندما دعت إلى الانتخابات العامة المبكرة عام 2017. فقد كانت ماي، مثل جونسون، تأمل حينها أن تمنحها الانتخابات الأغلبية والتفويض الشعبي لتطبيق رؤيتها لـ"بريكست". وبينما منحتها استطلاعات الرأي حينها أيضاً تفوقاً كبيراً على كوربن، وصل في إحدى المراحل إلى 20 نقطة مئوية، انتهى بها الأمر بأن خسرت الأغلبية التي ورثتها عن ديفيد كاميرون من انتخابات 2015. وتمكّن حزب العمال عام 2017 من تجاوز التوقعات وتحقيق أكبر مكاسبه منذ أربعينيات القرن الماضي، لكن المحافظين حافظوا على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان. بل إن ماي، مثلها مثل جونسون، وصلت إلى رئاسة الوزراء بعد انتخابها زعيمة للمحافظين خليفة لكاميرون، بعد فشل التيار المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016. فهل تشمل أوجه الشبه بين ماي وجونسون نتيجة الانتخابات المبكرة المرتقبة أيضاً؟ أم ينجح جونسون في قيادة المحافظين نحو التعافي وتطبيق "بريكست" بعد تأجيل لأكثر من ثلاث سنوات؟