انتفاضة العراق: السلطة تواجه مأزقها بزيادة القمع

انتفاضة العراق: السلطة تواجه مأزقها بزيادة القمع

04 أكتوبر 2019
ارتفاع كبير في عدد الضحايا (أحمد الربيعي/فرانس برس)
+ الخط -
رفعت السلطات العراقية سقف القمع والعنف في مواجهة المتظاهرين في بغداد ومدن عدة من جنوب البلاد في ثالث أيام الانتفاضة التي تشهدها البلاد، مع دخول مليشيات على خط قمع المتظاهرين، ليرتفع عدد الضحايا إلى أكثر من 26 قتيلاً وما يقارب الألف جريح حتى ساعة متأخرة من عصر أمس، الخميس، في وقت تواصل فيه فرض حظر التجوال وقطع خدمة الإنترنت عن مختلف أرجاء البلاد عدا إقليم كردستان، والدفع بمزيد من القوات إلى المدن وقطع الطرقات، وسط توقع تظاهرات أوسع، اليوم الجمعة، بعد انتهاء خُطب الجمع، وهو ما قد يكون السبب الرئيس لدى السلطات العراقية في الدفع بقوات إضافية والإبقاء على حالة التأهب القصوى في صفوف قواتها.

وبدا أمس أن السلطات في مأزق بمواجهة التظاهرات، مع فشلها بالتواصل مع المحتجين بعدما لم تتمكن من التعرف على قيادات منهم، ورفض هؤلاء أي دخول حزبي في صفوفهم، وفي ظل غياب أي لجان تنسيقية لتلك التظاهرات، فيما برز إحراق مقرات أحزاب ومليشيات. أما رئيس الحكومة عادل عبد المهدي فسعى لعدم جعل نفسه وحيداً في مواجهة الشارع عبر طلبه من رئيسي الجمهورية برهم صالح والبرلمان محمد الحلبوسي، تحمّل المسؤولية معه. ولم يقتصر التخوّف من ارتدادات وتوسع التظاهرات على الداخل العراقي، إذ قامت إيران بإغلاق معبر حدودي مع العراق، ونصحت رعاياها بتجنّب زيارة البلاد حالياً.

وشهدت مناطق في بغداد، وذي قار، والقادسية، والنجف، والبصرة، وميسان، وواسط، والديوانية، تظاهرات متفاوتة لجهة عدد المشاركين فيها أو وقت استمرارها، طيلة نهار أمس الخميس ومساء الأربعاء - الخميس، لكن بشعارات مماثلة إلى حد ما، أغلبها تركز على انتقادات للحكومة والنظام السياسي، فيما غلب ترديد شعارات اعتُبرت تجاوزاً للخطوط الحمر، من بينها توجيه انتقادات لمراجع دينية، بسبب ما وصفه المتظاهرون صمتها على ماكينة الفساد والفقر والبطالة وسوء الخدمات التي يعاني منها العراقيون، عدا عن تسجيل إحراق مقرات لحزب "الدعوة الإسلامية"، ومنظمة "بدر" ومقر لحركة "صادقون"، الجناح السياسي لمليشيا "العصائب"، ومقر لحركة "البشائر" التي يرأسها صهر نوري المالكي، ياسر صخيل، في النجف وميسان والرفاعي، جنوب محافظة ذي قار.

ومنعت قوات الأمن في بغداد انتقال الأشخاص ولو سيراً على الأقدام بين الأحياء والمناطق السكنية، فيما أكدت مصادر محلية نقل وثائق وملفات مهمة في دوائر رسمية في ذي قار وميسان وواسط خوفاً من اقتحام المتظاهرين لها وإتلافها. وزير الدفاع العراقي نجاح الشمري، قال في حديث مقتضب لـ"العربي الجديد"، إن "كل الإجراءات التي تم اتخاذها تهدف لحماية المقرات الحكومية والبعثات الدبلوماسية والمال العام تحسباً لأي طارئ"، مؤكداً أن "قوات الجيش تلتزم بأعلى درجات الضبط العسكري في تعاملها مع المتظاهرين".

غير أن الاتهامات التي وُجّهت في الساعات الماضية لم تكن للجيش العراقي الذي بدا في بعض التظاهرات إلى جانب المتظاهرين، بل كانت لكل من جهاز مكافحة الشغب والشرطة الاتحادية وقوات "سوات"، وهي قوات تأسست في زمن رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، وتم تجميع عناصرها بالترشيح من قبل الأحزاب وليس بالقبول العام كما حال قوات الجيش أو الشرطة المحلية، كما يجري الحديث عن تورط عناصر ضمن فصائل في "الحشد الشعبي"، أبرزها "الخراساني" و"كتائب حزب الله"، في قمع المحتجين أيضاً.


وكشف مسؤول عراقي في بغداد، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، أن التوجيه باستخدام العنف من قِبل تلك القوات، والذي طاول أيضاً نساء وكباراً في السن، متورط فيه موظفون في مكتب رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، وأبرزهم أبو جهاد الهاشمي، مدير مكتب رئيس الوزراء، وهو قيادي في المجلس الأعلى الإسلامي، الذي يتزعمه همام حمودي وانشق عنه أخيراً عمار الحكيم.
وأكد المسؤول أن رئيس الوزراء طلب من رئيسي الجمهورية برهم صالح والبرلمان محمد الحلبوسي، تحمّل المسؤولية معه وعدم دفعه لمواجهة الشارع بمفرده، وهو ما أدى إلى عقد الاجتماع الأخير في منزل برهم صالح في المنطقة الخضراء ليلة الأربعاء - الخميس وصدرت عنه خطوات عدة، من أبرزها تشكيل لجنة عليا خاصة بالتظاهرات. ولفت المسؤول إلى أن تقريراً للاستخبارات العسكرية، أمس الخميس، كشف عن أنه لا قائد في هذه التظاهرات، ولا وجود لأي وجوه مألوفة شاركت في تظاهرات سابقة، على غرار قيادات الحزب الشيوعي العراقي أو التيار المدني أو ما يعرف بجماعة علمانيي بغداد التي نشطت في تظاهرات عام 2011، ولا حتى التيار الصدري أو شخصيات محسوبة على تيار عمار الحكيم التي تظاهرت قبل نحو شهرين أيضاً في عدد من مدن البلاد.
ولفت إلى أن "التظاهرات من نوع جديد ومختلفة عن أي تظاهرات سابقة، وأن محركيها شبان وصبيان يأتون من مناطق ضواحي بغداد الفقيرة في الغالب، وهم من الطبقة الفقيرة، ويتفاعل معهم سكان المناطق، وهذا سبب استمرارها، فكل منطقة لا تحتاج سوى إلى بضعة عشرات لتتحول إلى تظاهرة من مئات في وقت قصير".

وفي ما بدت محاولة لتهدئة الشارع، طالب رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، في بيان عصر أمس، ممثلي المتظاهرين بالتواصل هاتفياً عبر خطوط ساخنة دوّنها في بيانه "للنظر في مطالبهم المشروعة". وقال بيان لمكتب عبد المهدي إن الأخير "يتابع الاتصالات المستمرة بممثلين عن المتظاهرين السلميين للنظر بالطلبات المشروعة، وصولاً إلى ما يلبي تطلعات شعبنا وفئة الشباب منهم خصوصاً، لتهدئة الأوضاع والعودة إلى الحياة الطبيعية والتهيؤ للقاء بهم". كما عقد عبد المهدي، مساء، اجتماعاً مع القيادات الأمنية، في مقر قيادة عمليات بغداد التابعة للجيش، لبحث تطورات الموقف على خلفية الاحتجاجات. وفي السياق، برز إعلان المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، إقالة ألف موظف حكومي بتهم تتعلق بالاختلاس وهدر المال العام.

ورفض معظم نواب البرلمان العراقي الحديث حول رؤيتهم للتظاهرات، وما ستسفر عنه، متذرعين بأنهم لا يعرفون من يقف وراءها وهل هي عفوية أم مدفوعة من طرف خارجي أو داخلي. غير أن عضواً في لجنة الأمن والدفاع البرلمانية تحدث لـ"العربي الجديد"، شرط عدم ذكر اسمه، قال إن رئيس الوزراء أوعز بتشكيل لجنة حكومية برلمانية للتواصل مع المتظاهرين لكنها فشلت حتى الآن في الجلوس مع أحد منهم. وأضاف أن "رجال دين محسوبين على التيار الصدري حاولوا لقاء المتظاهرين في الباب الشرقي على مقربة من ساحة التحرير، لكنهم هاجموهم لفظياً واعتبروهم من المستفيدين والمتسلقين على التظاهرات"، مؤكداً أن أي حديث عن أن هناك لجاناً تنسيقية لتلك التظاهرات غير صحيح.

ولفت إلى أن "اللجنة ستعلن خلال الساعات المقبلة ضحايا التظاهرات شهداء، وتعويض ذويهم والتكفل بالجرحى، كما تتجه لإطلاق حزمة من الخطوات، منها إيقاف هدم العشوائيات وإيجاد فرص عمل وتوسيع رقعة المشمولين بمرتبات شبكة الإعانة الاجتماعية، وإجراءات أخرى".
واعتبر أن استمرار القمع بهذا السقف المرتفع، من دون تنديد أو مطالبة بمحاسبة من يقف وراءه من قوات الأمن، قد يعني أن هناك قبولاً ضمنياً، مشيراً إلى أن عمليات الحرق أو حتى ضرب قوات الأمن وتنفيذ عمليات تخريب، قد تكون من صنع مليشيات أو منتسبي أجهزة أمنية لحرف مسار التظاهرات عن سلميتها أسوة بما حدث في البصرة العام الماضي، حيث تسبب التخريب في إيقاف التظاهرات من قبل المتظاهرين أنفسهم، خاتماً بالقول إن "هناك انتظاراً لخطبة المرجعية وما ستعلق به على الأحداث الدامية في خطبة اليوم بالنجف".

من جهته، قال القيادي في التيار الصدري، حاكم الزاملي، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك جهات سياسية مستفيدة من الوضع الحالي قامت بزرع عناصرها في صفوف المتظاهرين من أجل إحراق المباني الحكومية ومقرات الأحزاب وحتى الاعتداء على رجال الشرطة المحلية وكذلك الاتحادية". وأضاف "المتظاهرون السلميون ليست غايتهم الحرق والاعتداء، لكن هناك عناصر اندست بينهم من قبل جهات سياسية، حتى يتم خلق فوضى وإفشال التظاهرات وإخراجها عن مسارها السلمي ومطالبها الحقة والمشروعة لتشويه سمعة المتظاهرين، ويبقى الوضع كما هو كونها مستفيدة من الوضع الحالي".

في غضون ذلك، أغلقت السلطات الإيرانية معبرين حدوديين مع العراق قبل أن تفتح أحدهما. وأغلقت إيران معبري خسروي بمحافظة كرمانشاه، وجذابة في خوزستان الحدوديين، بسبب تطور الأوضاع الأمنية في العراق، قبل أن تعيد فتح معبر جذابة. كما حثّت وزارة الخارجية الإيرانية مواطني بلادها على إرجاء زياراتهم إلى العراق لإحياء مناسبة دينية، "إلى حين استقرار الظروف هناك". ودعت الخارجية مواطنيها إلى أن "يولوا اهتماماً كبيراً لتحذيرات المسؤولين السياسيين والأمنيين في العراق خلال زيارتهم". وأضافت أن "طهران على ثقة من أن الحكومة العراقية ستعمل إلى جانب الأحزاب والشخصيات السياسية والمرجعية الدينية والزعماء الدينيين، على تهدئة الأجواء المشتعلة في المدن العراقية ولن تسمح لبعض الحركات بإلحاق الضرر بالشعب العراقي وإساءة معاملة الأجانب الوافدين إلى العراق".

وتعليقاً على الوضع الحالي، اعتبر المحلل السياسي العراقي علي العبيدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "هذه التظاهرات كسرت شيئاً عند العراقيين لن تقدر الحكومة على جبره، وهو أن قاعدة لا تظاهرات من دون داعم سياسي انتهت"، مضيفاً "فيسبوك نجح في إخراج الناس وتوحيدهم بلا أب أو راعٍ ومن دون دعم أي تيار سياسي، وأعتقد أن الشيوعيين والصدريين الآن نادمون لأنهم استعجلوا في الإعلان عن تنصّلهم من هذه التظاهرات وعدم المشاركة فيها". وحول توقعاته باستمرار هذه التظاهرات أو تراجعها، قال إن "كل السيناريوهات متوقعة بما فيها اتساع رقعة التظاهرات إلى كركوك ومدن في إقليم كردستان، أو أنها ستخمد بالقوة وبدسّ المخربين، فالعراقيون متفقون على أن التظاهرات التي تتسبّب بانهيار أمني لا حاجة لهم بها وهي نقطة ضعف تستغلها الأحزاب التي تسيطر على حكم البلاد منذ عام 2003 ولغاية الآن".