عودة الروح لـ"الجيش الأوروبي الموحد": رغبة تغذيها "التهديدات" الروسية

عودة الروح لـ"الجيش الأوروبي الموحد": رغبة تغذيها "التهديدات" الروسية

28 اغسطس 2016
تتمسك واشنطن بحلف الأطلسي الذي يعزز نفوذها (شون غالوب/Getty)
+ الخط -
لم يعد الحديث عن تأسيس "جيش أوروبا الموحد" سراً، ولم تعد المخاوف الأوروبية الأمنية هاجساً، بل بات "الأمن مسألة جوهرية" تتطلب من دول أوروبا "القيام بالمزيد من العمل من أجل الأمن والدفاع"، كما قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، رداً على دعوة رئيسي وزراء هنغاريا فيكتور أوربان وتشيكيا بوهوسلاف سوبوتكا إلى إنشاء جيش أوروبي مشترك، وذلك أثناء لقاء جمعهما أمس الأول، الجمعة، في وارسو، مع نظيريهما البولندي بياتا سزيدلو والسلوفاكي روبرت فيكو والمستشارة الألمانية.
وخلال اللقاء الذي يسبق أول قمة للاتحاد الأوروبي تُعقد الشهر المقبل في العاصمة السلوفاكية، بعد تصويت 52 في المائة من البريطانيين في يونيو/ حزيران الماضي لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، قال أوربان: "يجب علينا إعطاء الأولوية للأمن وإطلاق بناء جيش أوروبي مشترك". والحديث هنا لا يدور عن مجرد تعزيز التعاون الأوروبي في مواجهة الإرهاب، بل عن "إطلاق حوار حول احتمال إنشاء جيش أوروبي مشترك، تكون مهمته حماية أكثر فعالية لحدود منطقة شنغن"، وفق بوهوسلاف سوبوتكا.
ويبدو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما سبقه من إقدام روسيا الاتحادية على ضم شبه جزيرة القرم، ومن ثم دعم ومساندة الداعين إلى تقسيم أوكرانيا وفقاً لاعتبارات عرقية أو "ولائية"، دفع قادة دول الاتحاد الأوروبي، لا سيما في الشطر الشرقي من أوروبا، إلى إعادة فتح ملف إنشاء "جيش أوروبي موحد" من أجل إقناع روسيا بأن الاتحاد الأوروبي جاد في الدفاع عن قيمه، كما قال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر في وقت سابق، معتبراً أن العمليات العسكرية لروسيا في أوكرانيا جعلت من إنشاء جيش أوروبي مسألة أكثر إلحاحاً، وأن تشكيل هذا الجيش سيؤدي إلى ترشيد الإنفاق العسكري وتعزيز اندماج الدول الأعضاء.
يونكر وغيره من قادة دول الاتحاد من سياسيين وعسكريين، اعتبروا أن تشكيل هذا الجيش بمثابة الرد الطبيعي على المخاوف والرعب الذي يطارد شعوب القارة الأوروبية، نتيجة التهديدات المتكررة من قِبل المنظمات الإرهابية، وكذلك شعور حكومات الغرب بالقلق من إمكانية تدهور العلاقات مع روسيا بسبب النزاع الأوكراني، واحتمالات نشوب مواجهة عسكرية مفتوحة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي. وبالتالي فهناك ضرورة لتأسيس "جيش أوروبي موحد" يقوم بدور الدفاع عن مختلف القيم الأوروبية، التي تتعرض إلى المخاطر والتهديدات المحتملة الخارجية، وتوحيد سياسات دول الاتحاد على المستوى الخارجي في الشؤون الدفاعية والأمنية.


ويبدو أن دول الاتحاد الأوروبي باتت أكثر جرأة في طرح مشروع الجيش الموحد بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لا سيما أن لندن عارضت مشروعاً مماثلاً عام 2011. وأعرب وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون، أكثر من مرة، عن رفض بلاده القاطع لتشكيل جيش أوروبي موحد، نافياً "وجود أي إمكانية لذلك"، ومتعهداً بإجهاض لندن أي مساعٍ لحشد الاتحاد الأوروبي جيشاً موحداً. كما كرّر رئيس الحكومة البريطانية السابق ديفيد كاميرون، معارضته المبدئية لفكرة الجيش الأوروبي الموحد في أكثر من مناسبة، وأيّد فكرة "الاعتماد الذاتي" على قوة الجيوش الوطنية للدفاع عن أوطانها.
ويرد مراقبون هذا الرفض البريطاني إلى العلاقات الاستراتيجية بين لندن وواشنطن التي ترى في جيش كهذا تهديداً لنفوذها في أوروبا، وتهديداً لمكانة حلف شمال الأطلسي ودوره، لا سيما مع تنامي الدعوات للتحرر من الإملاءات الأميركية. كما ترى واشنطن ولندن أن "الجيش الأوروبي" سيكون أداة في يد ألمانيا التي تبدو أكثر دفاعاً لجهة استقلالها عن الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وأكثر ميلاً للتفاهم مع روسيا التي تعتبر نفسها خصماً للولايات المتحدة وليس لأوروبا.
وبينما تخشى دول أوروبية من استفزاز موسكو بمشروع "الجيش الموحد"، وعودة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، وهو الموقف الذي لا تخفيه روسيا، تبدو ألمانيا وفرنسا ودول في أوروبا الشرقية أكثر اندفاعاً لجهة إنشاء "جيش أوروبي" يحمل لواء العقيدة الأمنية للدفاع عن القيم والمصالح الأوروبية أمام كافة التحديات والمخاطر، لأن "أوروبا عانت الكثير نتيجة سياساتها الخارجية، ولن يكون العلاج إلا من خلال إنشاء قوة تسمح بمواجهة التهديدات الجديدة على حدود الاتحاد الأوروبي والدفاع عن قيم الاتحاد الأوروبي" على حد سواء، كما قال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر.
وعلى الرغم من اعتقاد بعض المسؤولين الأوروبيين بإمكانية تشكيل الجيش الأوروبي الموحد بعد التخلّص من الرفض البريطاني، إلا ان الكثير من الخبراء في الدوائر الأوروبية يشككون في إمكانية ولادة هذا الجيش، على الأقل في السنوات العشر المقبلة. ومردّ هذا التشكيك يعود أولاً إلى معارضة واشنطن وتمسكها بحلف شمال الأطلسي الذي يعزز نفوذها السياسي والأمني في أوروبا، وثانياً لرغبة الولايات المتحدة في إبقاء ألمانيا تحت السيطرة في ظل مواجهة مُحتملة مع روسيا، إضافة إلى عدم قدرة الكثير من الدول الأوروبية على رصد الميزانيات اللازمة لتأسيس جيش أوروبي، لا سيما مع عدم تأييد غالبية دافعي الضرائب الأوروبيين لزيادة الإنفاق العسكري، مقابل سياسات التقشف في قطاعات الصحة والتعليم ومشاريع البنية التحتية.