بعد خطاب التهدئة... قراءة أولية لأميركا برئاسة ترامب

بعد خطاب التهدئة... قراءة أولية لأميركا برئاسة ترامب

10 نوفمبر 2016
ترامب في خطاب النصر (مارك ويلسون/Getty)
+ الخط -
حاول الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، في أول خطاباته، بثّ رسائل طمأنة إلى الداخل الأميركي ودول العالم، بما يتعلق بسياساته المرتقبة، بعد استقراره في البيت الأبيض في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل، كالرئيس الـ45 للولايات المتحدة، إثر فوزه على مرشحة الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون.

بدا ترامب، خلال خطاب النصر الذي ألقاه في مدينة نيويورك، مسقط رأسه، أمس الأربعاء، حذراً إزاء كل ما يقال عن سياساته المرتقبة، تحديداً التمييز بين الأميركيين على أسس دينية وعرقية، وتبنّي سياسات دولية عدائية قد تؤثر في النظام الدولي. لذا كان خطابة قصيراً نسبياً، استغرق الجزء العام منه أقل من 10 دقائق، وركّز في مجمله على ما يقرّبه من الناس، ويطمئن أصدقاء الولايات المتحدة، أما الجزء الأكبر من الخطاب فخصصه لشكر عائلته، وداعمي حملته الانتخابية.

وشكر ترامب في خطابه كلينتون، متحدثاً عنها وعن أسرتها بإيجابية، على الرغم من معاناتها كثيراً من تهجّمه عليها خلال الحملة الانتخابية، لا سيما في إثارته المستمرة لفضائح الرئيس الأميركي الأسبق، بيل كلينتون، واستغلاله لقضية التحقيق مع وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في قضية رسائل البريد الإلكتروني المسربة.

وكان ترامب قد بدأ خطابه بالقول: "للتو استقبلت مكالمة من هيلاري كلينتون، التي هنأتنا نحن. إن الأمر متعلق بنا، لقد هنأتنا بنصرنا. وأنا بدوري أهنئها وعائلتها على الحملة التي قاتلت من خلالها، لقد قاتلت بجد". وأضاف: "هيلاري عملت بجدّ لفترة طويلة جداً، وندين لها بالكثير من الامتنان على خدمتها لبلدنا، وأعني هذا بصدق".

بعدها، تحدث ترامب عن الجانب المحلي الأهم، المتعلق بانقسام النخب الأميركية حوله، هو الذي لم يحظ بدعم المؤسسة التقليدية للحزب الجمهوري، ولا دعم نخب واشنطن. الأمر الذي ظهر جلياً بتخلي زعيم الأغلبية الجمهورية في الحزب الجمهوري، بول رايان، عنه، بالإضافة إلى شخصيات أخرى، كالسيناتور جون ماكين. حتى أن الرئيس الأميركي الجمهوري الأسبق، جورج بوش الابن، أكد أنه لم ينتخب ترامب. إلا أن ترامب حاول تجاوز كل هذا، بتأكيد أنه سيجمع الأميركيين ولن يعزز انقسامهم. وجاء في خطابه: "الآن حان الوقت لأميركا أن تتجاوز انقساماتها، لنعمل بعضنا مع بعض، كل الجمهوريين والديمقراطيين والمستقلين على امتداد هذه الأمة. حان الوقت لنجتمع معاً كشعب موحّد".

كما أكد أنه سيكون رئيساً لكل الأميركيين، قائلاً: "أتعهد لكل مواطن بأن أكون رئيساً لكل الأميركيين، وهذا مهم بالنسبة لي". وأضاف أن "أولئك الذي اختاروا ألا يدعموني في الماضي، وهؤلاء قلة (قالها ساخراً)، أنا أطلب منكم المساعدة والنصح لنعمل معاً ونوحد بلدنا العظيم".


بغض النظر عن تأكيدات ترامب توحيد الأميركيين، والنخب السياسية، لا سيما مع تخلي المؤسسة التقليدية داخل الحزب الجمهوري عنه، ورفضها دعمه، إلا أن العلاقة بين الجانبين تبدو حتمية. فالرئيس لن يستطيع أن ينفذ خططه الاقتصادية والسياسية من دون دعم الكونغرس الأميركي، الذي يسيطر الجمهوريون على الأغلبية في مجلسيه، الشيوخ والنواب.

ولن تكون مفاوضات ترامب مع المؤسسة التشريعية تقليدية ومتعلقة بمحاولة التفاهم مع الحزب المناوئ له (الديمقراطي)، بل هو بحاجة لعقد تفاهمات مع الحزب الجمهوري، الذي مثله وفاز باسمه، على الرغم من كل الانقسامات في النخبة الأميركية المحافظة. بالتالي فإن حاجة الجانبين للعمل سوية، ستُسهّل على الأرجح التركيز على التقاطعات في ما بينهم، وتجاوز الخلافات التي ستنشأ في المستقبل.

أولى القضايا التي من المتوقع أن توضح طبيعة العلاقة بين ترامب والأغلبية الجمهورية في الكونغرس، هي تعيين قاض في المحكمة العليا، بدلاً عن أنتونين سكاليا، الذي توفي في فبراير/ شباط الماضي، ولم يتمكن باراك أوباما من تعيين بديل عنه، بسبب معارضة الجمهوريين في مجلس النواب.

ولتعيين القضاة في المحكمة العليا أهمية استثنائية، باعتبار أن القاضي يبقى في منصبه حتى وفاته، ولا يتم التعيين إلا عن طريق اختيار الرئيس وموافقة الكونغرس، بالإضافة إلى الدور الأساسي الذي يؤديه قضاة المحكمة العليا في تفسير الدستور الأميركي، ما يعني انعكاس قرارات المحكمة على العملية التشريعية ككل.

كما أن هناك قضايا أخرى قد تكون بمثابة مجالات لصياغة تفاهمات أوسع بين ترامب والجمهوريين التقليديين، متعلقة بالتأمين الصحي (أوباما كير)، من جهة، وبالاتفاق النووي مع إيران من جهة أخرى. وإذا كان من المستبعد أن يتبنى ترامب سياسات جذرية مناقضة لأوباما في هذين الموضعين، إلا أن رأيه سيكون موافقاً لرأي المؤسسة التقليدية الجمهورية، ما يعني أن هذه القضايا قد تمهّد لتعاون أكبر بين الجانبين، يتجاوز الصراع الدائر بينهما خلال الفترة السابقة.

حاول ترامب، في خطاب النصر، أن يوكد رغبته بتوحيد الأميركيين ككل، بغض النظر عن أعراقهم، ليغسل ربما خطايا حملته التي تبنت خطاباً شعبوياً متعصباً، تحديداً في خطابه حول الهجرة، التي ترتبط عادة بالمكسيكيين، والإرهاب، المسألة المرتبطة بالعرب والمسلمين. لا ننسى هنا أهم ما أكده ترامب خلال حملته الانتخابية، أي بناء "جدار" مع المكسيك تتحمل تكاليفه الحكومة المكسيكية، لمنع الهجرة غير الشرعية والأعمال الإجرامية على الحدود. كما وعد بمواجهة "الإرهاب الإسلامي ومنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة". الأمر الذي تراجع عنه لاحقاً، وحدّد أنه "سيمنع الآتين من بعض الدول الإسلامية، تلك التي تدور في رحاها حروب أهلية، باعتبار أن الدستور الأميركي يمنع التمييز على أساس الدين".

وصف ترامب فوزه بأنه انتصار لتيار شعبي، لا حملة انتخابية، قائلاً: "نحن لسنا حملة، بل تيار عظيم صُنع من ملايين الرجال والنساء الذين يعملون بجد ويحبون بلدهم ويطمحون ببناء مستقبل أفضل لأنفسهم وأطفالهم". وأضاف أن "تياره شُكّل من الأميركيين من كل الأعراق، والأديان والمعتقدات والخلفيات. الأميركيون الذين يريدون ويتوقعون من الحكومة أن تخدم كل الناس بشكل جيد".


وهذه الإشارة لا تخلو من الصحة، إذ يُعدّ فوز ترامب انتصاراً لملايين الأميركيين المعارضين للنخب التقليدية في واشنطن، أكانت في الحزب الجمهوري أم الديمقراطي. لذا توّج وجود ذلك بمرشحين عدة في الانتخابات التمهيدية من خارج المؤسسات الحزبية التقليدية، كبيرني ساندرز، في الحزب الديمقراطي، وتيد كروز، وترامب، في الحزب الجمهوري. مع العلم أن تقديرات عدة ذكرت أن غالبية أنصار ساندرز، في المعسكر الديمقراطي، إما صوّتوا لترامب، أو امتنعوا عن التصويت، بدلاً عن دعم من يرونه "امتداداً لكل أخطاء نخب واشنطن، هيلاري كلينتون".

بعد المحددات التي تحدث عنها ترامب، تلك المتعلقة بتوحيد الأميركيين، على المستوى النخبوي والشعبي، أكد أولوية المسألة الاقتصادية، التي يرى الكثير من المراقبين أنها سبب رئيسي لفوزه، تحديداً مع الولايات "المحتجة"، كبنسلفانيا، وويسكونسن، وميشيغن، التي صوتت للمرشح الجمهوري، للمرة الأولى منذ عام 1988. وفُسّر تصويتها لترامب، كاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية التي تعانيها، المرتبطة بانهيار الصناعات التقليدية، ورحيل الشركات إلى خارج الولايات المتحدة.

كما شدّد ترامب على أن "المهمة العاجلة التي سيبدأ بها عمله في البيت الأبيض، هي بناء أمتنا والحلم الأميركي، والفرص أمام الأميركيين متاحة وسنقوم باستغلالها". كما أعلن عن إصلاح البنى التحتية، كأكثر شيء قام بتحديده في خطاب النصر، معتبراً أنه "سنقوم بإصلاح مدننا وبناء طرقنا وجسورنا وأنفاقنا ومدارسنا ومطاراتنا ومستشفياتنا وكل البنية التحتية"، قبل أن يتطرّق إلى رعاية الجنود الأميركيين القدامى.

وكشف عن "وجود خطة اقتصادية عظيمة، سنضاعف نمونا بها، ونملك أقوى اقتصاد في العالم، في الوقت الذي سنتعامل مع كل الأمم التي يمكنها العمل معنا". وهي نقطة تعكس أمرين: أولوية الجانب الاقتصادي، وإبعاد صفة "الانعزالي" عنه.

كما حاول ترامب بث رسائل طمأنة إلى دول العالم، بعد التصريحات المناوئة له، السابقة على انتخابه، ثم تلك الحذرة والاستنكارية، التي جاءت بعد فوزه. أبرزها تصريح وزيرة الدفاع الألمانية، أورسولا فون دير لاين، التي وصفت انتخاب ترامب بـ"الصدمة الكبرى"، متخوفة من موقف ترامب من حلف شمال الأطلسي.

في السياق ذاته، اعتبر رئيس البرلمان الأوروبي، مارتن شولتز، أن "العمل مع ترامب سيكون صعباً على الاتحاد الأوروبي"، في الوقت الذي غرّد فيه سفير فرنسا في الولايات المتحدة، جيرار أرود، على صفحته على موقع "تويتر"، عبارة حذفها لاحقاً، تلخّص الموقف: "إننا نرى العالم ينهار أمام أعيننا".

في خطاب النصر أيضاً، قال ترامب للمجتمع الدولي إنه "سيضع أميركا أولاً"، لكنه جزم "سنتفق بعدل مع الجميع، مع كل البشر والأمم". وأشار إلى أنه "سنبحث عن المشتركات مع الآخرين لا العداوات، الشراكة لا الخلافات". غير أنه من المستبعد أن تكون هذه الإشارات في خطاب ترامب كافية لنزع المخاوف من سياسات الآتي الجديد إلى البيت الأبيض، الذي لم يتولَّ أي منصب سياسي في تاريخه، ولا علاقة له بالعمل السياسي على أي مستوى.

من المبكر جداً توقع توجهات سياسية بعينها، داخلياً وخارجياً، للرئيس الأميركي المنتخب، قبل أن يشرع باختيار الطاقم الرئاسي الذي سيرافقه إلى واشنطن، في 20 يناير المقبل. لكن نظرة سريعة إلى المرحبين بانتخاب ترامب، المدعوم من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعلى الخائفين من حكمه، كالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، قد يرسم بعض ملامح الحقبة العتيدة، غير العادية، التي ستتشكل خلال الأسابيع المقبلة، من خلال علاقة ترامب بالنخب داخل الحزب الجمهوري، والممثلة بالمؤسسة التقليدية للحزب، والمحافظين الجدد، وبقايا حزب الشاي، وغيرهم، وطبيعة الأسماء التي ستشكل الإدارة الأميركية الجديدة، وتتولى دفة الحكم في الولايات المتحدة، وصياغة تفاصيل سياساتها الداخلية والخارجية.

المساهمون