تعز... مدينة أفقدتها الحرب ملامحها

تعز... مدينة أفقدتها الحرب ملامحها

27 يونيو 2017
معظم المدارس في تعز طاولها التدمير (أحمد الباشا/فرانس برس)
+ الخط -

تغيّرت معالم مدينة تعز، الواقعة جنوبي اليمن، بفعل الحرب التي تشهدها البلاد، وتغيّرت أيضاً سبل الوصول إليها أيضاً، وأصبحت أكثر كلفة وفقاً لعوامل المسافة والزمن والأمان. فمنذ نحو عامين فرضت قوات الانقلابيين حصاراً خانقاً على المدينة من جميع المنافذ، الرئيسية والفرعية أيضاً. وبفعل الحرب والحصار أصبحت تعز معزولة عن ضواحيها من جميع الاتجاهات، باستثناء المنفذ الجنوبي، الرابط بين مدينة تعز والضواحي الجنوبية المرتبطة بمحافظة عدن، وهو المنفذ الوحيد المفتوح.

ويروي محفوظ العكيشي، لـ"العربي الجديد"، قصة دخوله مدينة تعز، في 15 إبريل/نيسان الماضي، قادماً من السعودية. ويقول "قبل سفري من السعودية لزيارة أسرتي المتواجدة وسط مدينة تعز، تواصلت مع عدد من النشطاء والمقربين لمعرفة كيف يمكن الوصول إلى وسط مدينة تعز". ويضيف "عرفت أن الحوثيين يمنعون الدخول عبر المنفذ الرئيسي الذي يربط الحوبان بالمدينة، والذي يبعد عنها كيلومترين، وأنه لا يوجد منفذ غير الثغرة الوحيدة، وهي الطريق الجبلية الشاقة، التي تمتد من الحوبان وتخترق مدينة الدمنة، ومديرية خدير ثم مديرية المسراخ والأقروض جنوباً لتتصل بخط تعز- عدن النافذ إلى الضباب جنوباً". وبعد أن تم الترتيب مع أحد سائقي سيارات الأجرة، يقول محفوظ "حددنا منطقة الحوبان نقطة اللقاء، وانطلقنا من هناك الساعة العاشرة صباحاً، ووصلنا إلى وسط تعز الساعة الخامسة عصراً، بعد أن قطعنا نحو 130 كيلومتراً".

المحافظة التي يعيش فيها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة يتوزعون على ثلاث مديريات في المدينة و20 مديرية في الريف، لا تزال تعاني من الحصار الخانق الذي فرضه الانقلابيون عليها. ولعل حالة الحصار التي تمنع دخول المواد الغذائية والمشتقات النفطية والأدوية قد جعلت هذه المدينة المنكوبة تعاني من وضع إنساني بالغ السوء، خصوصاً مع دخول الحرب عامها الثالث. وقد استبشر الأهالي في تعز بتحرير منطقة الضباب جنوب غرب المدينة في أغسطس/آب 2016، ما يعني أن خط عدن – تعز، وهو شريان الحياة الوحيد للمدينة أصبح سالكاً، والذي تبدأ منه رحلة السفر إلى تعز، إذ تستمر الرحلة عبر هذه الطريق بين 5 و6 ساعات، بعد أن كان يمكن للآتي من محافظة عدن، أن يعبر الطريق الرئيسي الواصل بينهما من جهة الحوبان شرقي المدينة، خلال ثلاث ساعات تقريباً.

من عدن تبدأ الرحلة بالتوجه إلى منطقة طور الباحة في محافظة لحج، لتتفاجأ بالعديد من النقاط الأمنية التي ينصبها أشخاص، يقومون في الغالب بإيقاف السيارات وإرغام الداخلين، من غير الجنوبيين، على دفع مبلغ مالي تحت تهديد السلاح. وبعد تخطي طور الباحة، تمر من المنطقة الفاصلة بين الجنوب والشمال، ثم تصل إلى أول النقاط الأمنية التابعة للواء 35 مدرع، والتي تمتد على طول الطريق الذي يصل إلى المدينة، وعند هذه النقاط يتعرّض المواطنون للتفتيش الدقيق والتأكد من هويتهم وسبب زيارتهم. كما سيكون على المسافر المرور في خط طريق هيجة العبد الذي يصل المناطق الجنوبية بمنطقة الحجرية (الريف الجنوبي في تعز). وتعد هيجة العبد من أخطر الطرق في اليمن، نتيجة ارتفاعها الشاهق وكثرة المنعطفات وضيق الطريق المنحدرة، التي تم شقها عبر جبل شاهق. ومع ذلك، فما زال الانقلابيون يتمركزون في الجبال البعيدة المواجهة للطريق، والتي تمكنهم من استهدافها بين الحين والآخر. ويقول السائق غالب سيف "إنهم يعبرون الطريق بحذر بسبب استهدافها بين الحين والآخر. ولهذا فإن سائقي السيارات والمركبات يضطرون إلى إطفاء الأنوار أثناء عبورهم ليلاً، لأن المليشيات تستهدف أي آلية تسير ليلاً بسبب خوفهم من تهريب السلاح".

شوارع المدينة

فتح المنفذ الجنوبي للمدينة في أغسطس/آب من العام الماضي، كان هو التحول الأبرز في استعادة المدينة لحيويتها. وعبّر عن ذلك منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن، جيمي ماكغولدريك، الذي تمكّن من زيارة تعز في 9 إبريل/نيسان الماضي، موضحاً، في تصريحات صحافية، أن الأسواق بدت أكثر انشغالاً، وكان هناك عدد كبير من السكان، بالإضافة إلى عدد كبير من المركبات على الطرق، مع زيادة في عدد المحال التجارية، رغم وضع المدينة كمنطقة صراع نشط. لكن حالة النشاط التي عبّر عنها ماكغولدريك، لا تنطبق على كل المناطق المحررة في تعز، فهناك مناطق، ورغم أنها محررة، لكنها خالية من الحركة. وأكثر ما يلفت، عند الدخول من منفذ الضباب جنوبي غربي تعز، هو انتشار المسلحين في الشوارع بكثافة، ما قضى على مدنية المدينة. وفي مدخل المدينة الغربي يستقبلك أشهر أندية تعز الرياضية، وهو نادي الصقر في منطقة بئرباشا، الذي حولته المليشيات الانقلابية إلى ثكنة عسكرية. ويتحدث السكان أن المليشيات كانت تخفي الدبابات في مرافق النادي، قبل أن يتم استهدافها أكثر من مرة بغارات مقاتلات التحالف العربي. وحتى بعد أن تم تحرير المنطقة في مارس/آذار 2016، فإن جيش الشرعية وفصائل "المقاومة الشعبية" استخدمت مباني النادي وملاعبه كثكنات عسكرية، بنفس نهج الانقلابيين. وكُتب على بوابة ملعب النادي "كتائب حسم"، وهي فصيل سلفي في "مقاومة" تعز.

في منطقة الحصب غرباً، يظهر حجم الدمار الهائل الذي خلفته الحرب، والذي تشهد عليه المنازل المدمرة بشكل كلي. كان شارع الحصب يضج بأصوات الورش الفنية والحرفية العاملة في مجال تشكيل الحديد والألمنيوم والخشب، لكن الصمت يخيم عليه اليوم. فمعظم الورش مغلقة بشكل كامل، باستثناء ورشة "الصبري" التي كانت أبوابها مُشرعة، لكنها ليست بنفس النشاط الذي كانت عليه قبل الحرب. ويقول علي الصبري "لا توجد حركة، والنشاط التجاري انعدم، ونادراً ما يزورنا عميل أو زبون بغرض أن نصنع له باباً أو نافذة". ويؤكد أن الفرق كبير جداً بين الوضع في الوقت الراهن وقبل الحرب.

محكمة الأموال العامة، ومبنى الجمارك، ونيابة الغرب القضائية، في الشارع ذاته، أصبحت خاوية ومغلقة. وفي منطقة جولة المرور في شارع الحصب تظهر حالة دمار مخيف حلت بالمباني، ويبدو أنها علامة على معركة بلغت ذروتها، إذ إن الانقلابيين قاموا بفتح ثقوب صغيرة في جدران المنازل الضيقة لاستخدامها في المعركة. وكلما توجهت في شارع المرور غرباً، تصادفك أكوام القمامة المتكدسة بكثرة، فيما تشاهد المرافق الحكومية، من إدارة المرور، والبحث الجنائي، والجوازات، مدمرة جراء المواجهات التي دارت بين قوات الشرعية والانقلابيين. قبل أن تمر الحرب من شارع المرور، كنت تشاهد، وقت الظهيرة، طلاب المعهد التقني والمهني بالزي الأزرق، وهم يتدفقون من بوابته عند انتهاء الدوام. وكان يتلقى أكثر من 7 آلاف طالب العلوم الهندسية والميكانيكية في المعهد، لكنهم أصبحوا اليوم مشردين ومحرومين من التعليم. ورغم أنه أصبح تحت سيطرة الحكومة الشرعية، بعد دحر القوات الانقلابية منه قبل أكثر من عام، فإن الوضع لم يتغير، إذ إن الطرفين أفرغوا المؤسسات التعليمية من دورها، وحولوا مرافقها إلى معسكرات. وبات المعهد، المترامي الأطراف، محاطاً بعدد من المتاريس الصفراء، وقد تحول إلى مركز تدريب لقوات الشرطة العسكرية التابعة للحكومة الشرعية، فيما كانت القوات الانقلابية، قبل دحرها من منطقة المرور، تستخدم المعهد كمركز قيادة لقواتها.



شارع جمال عبد الناصر

خلال الجولة في المناطق المحررة، تمر في شارع جمال عبد الناصر وسط المدينة. غيرت معظم المحلات التجارية نشاطها، وتزايدت محلات الصرافة. غير أن الوقفات الاحتجاجية والتظاهرات، التي يقودها موظفون ومعلمون، لا تكاد تتوقف في شارع جمال عبد الناصر، وهي تطالب بصرف رواتبهم، التي تعد المصدر الأول للدخل. ومكتبة تعز ما زالت تمارس نشاطها وسط الشارع، لكنها لم تعد تلبي طلبات الزبائن. لا كتب ولا مجلات، يقول صاحب المكتبة الأديب، كمال شعلان، موضحاً أن أكثر ما يباع لديه هي وثائق عقود الطلاق الخاصة بوزارة العدل. ويلفت تزايد البائعين المتجولين. وفي قلب شارع جمال عبد الناصر، تشد انتباهك ايضاً، مدرسة الشهيدة نعمة رسام، أكبر مدارس تعز الخاصة بالبنات، والتي كانت تفيض بعدد الطالبات، لكنها لم تعد كذلك بعد أن تحولت إلى ثكنة عسكرية تابعة لبعض فصائل "المقاومة". وهذا الحال ينطبق على عدد من المدارس، بينها أبرز مدارس تعز وأكبرها، وهي الشعب، وثانوية تعز الكبرى، وسبأ، والنهضة، ومجمع السعيد. كما تحول مكتب التربية والتعليم في المحافظة إلى مخزن للسلاح، وأصبح محاطاً بالمتاريس وأغلقت كافة الشوارع التي تؤدي إليه.

المؤسسات التعليمية في تعز تحولت إما إلى ثكنات عسكرية أو سجون خاصة تابعة لبعض الفصائل المسلحة. فبحسب تقرير صادر عن مركز الدراسات والتعليم التربوي، تحتوي تعز على 25 في المائة من المدارس في اليمن، إلا أن معظم المدارس طاولها القصف والتدمير وتم تفخيخ بعضها وتفجيرها، أو زرعها بالألغام من قبل الانقلابيين، فيما تسيطر فصائل "المقاومة" على العديد من المدارس والمؤسسات التعليمية، وترفض تسليمها إلى الجهات الحكومية. كما أن الصراع المسلح في تعز تسبب بإغلاق 468 مدرسة. وتبلغ نسبة المدارس المغلقة في المدينة نحو 80 في المائة، وفي الأرياف 30 في المائة.

مسلحون منتشرون

شوارع المدينة في المناطق المحررة تمتلئ بالمسلحين الذين ينتمون إلى فصائل وتيارات مختلفة. وهذه الظاهرة تشهد على تحول المدينة إلى ثكنة عسكرية كبيرة في ظل غياب الدولة ومؤسساتها، ما جعل منها بيئة خصبة لتزايد الانفلات الأمني وتزايد الحوادث الأمنية وجرائم الاغتيالات، التي أصبحت أخيراً تتم بشكل شبه يومي. كما أن تعرض المحلات التجارية إلى عمليات نهب وسرقة، من قبل مسلحين مجهولين، أصبحت ظاهرة تؤرق المدينة. فمصرف "الكريمي" (وهو البنك الأبرز في اليمن) في قلب شارع جمال عبد الناصر تعرض مطلع إبريل/نيسان الماضي إلى عملية سطو، هي الثانية خلال عام. وقالت إدارته إنه تم سرقة نحو 500 مليون ريال يمني (نحو 17 مليون دولار). في المدينة التي باتت بلا محاكم ولا نيابات، تحوّل المجمع القضائي، الذي يتربع على قمة جبل جرة، إلى ثكنة عسكرية منذ الأيام الأولى للحرب. ولجبل جرة حكاية باعتباره الموقع الذي يتوسط المدينة ويحرسها في آن، وهو الموقع الذي ظل عصياً على الانقلابيين حتى أصبح رمزاً لصمود المدينة المكتوية بنار الحرب منذ أكثر من عامين.



جوع وعوز

الجوع والعوز باتا أهم الملامح التي تشير إلى وجه المدينة، في ظل تزايد عدد البشر القاطنين فيها، إذ استقبلت تعز وريفها العدد الأكبر من النازحين من المدن الأخرى بسبب الحرب، والذين فقدوا أعمالهم ووظائفهم. ومع انقطاع صرف الرواتب لأشهر، لجأ عدد كبير من الأسر إلى التسول من أجل توفير لقمة العيش. مجرد أن تقف في أحد المتاجر مثلاً تجد مجموعة من الصبية، ذوي الثياب الرثة، بأيدٍ ممدودة تحيط بك وتطلب الصدقة. وتشير فاطمة سعيد إلى أنها لجأت إلى التسول بعد أن فقدت عملها في إحدى الشركات الخاصة، ووجدت أسرتها المكونة من 5 أولاد، من دون معيل بعد وفاة زوجها، مهددة بالموت جوعاً.
وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى وسيلة يتم عبرها عرض تفاصيل لحالات إنسانية موجعة، تتضمن قصة أسرة أنقذها أحد الجيران في اللحظات الأخيرة بعد ثلاثة أيام من التوقف عن الأكل، أو تنشر صور شخص طرده المستأجر لأنه لم يستطع دفع الايجار خلال الستة الأشهر الماضية بسبب توقف الرواتب.

ظاهرة السلاح

كما أن التجول في شوارع تعز يكشف عن ملامح جديدة لمدينة دمرتها الحرب، فلا يوجد بيت أو مبنى إلا ونال نصيبه من رصاص وقذائف الحرب، وهذا ما تسبب بإغلاق معظم المحال التجارية أو تغيير نشاطها في ظل كساد تجاري غير مسبوق تشهده المدينة التي أنجبت كبار التجار اليمنيين. كما أن الأسواق شهدت بروز ظواهر جديدة كمقايضة السلع بالرصاص بدل المال. وهذه الظاهرة تظهر جلية في أسواق القات، التي تزدحم عند منتصف النهار بالمسلحين الذين يحصل بعضهم على أعواد القات مقابل عدد من الرصاصات التي يفرغها من بندقيته لبائع القات، الذي يقوم ببيعها إلى زبون آخر مقابل مبلغ من المال.
وحين تعبر في باب موسى وأسواقه الأثرية وسط المدينة، ستكتشف أن السوق، الذي كان مخصصاً لبيع الأقمشة والتحف الأثرية، قد تحول إلى سوق صرافة وبيع السلاح، إذ يتم فيه بيع جميع أنواع الأسلحة والذخائر، بما فيها الصواريخ وقذائف الدبابات. وقد ازدهرت تجارة السلاح في تعز في زمن الحرب، إذ إن معظم ما يتم عرضه للبيع هو مما قدمه التحالف العربي كدعم لمعركة تحرير تعز، لكن قيادات في الجيش تقوم باستلامه وبيعه في الأسواق.

الجحملية

منطقة الجحملية الواقعة شرق المدينة، كانت قبل الحرب أكثر الأحياء عراقة في تعز، ورمزاً للتعايش، كون أصول معظم سكانه تعود إلى محافظات أخرى، خصوصاً محافظات الشمال. ومع دخول الحوثيين نسفوا حالة التعايش في هذا الحي، وجعلوا من الجحملية مقراً رئيسياً لهم، ما أدى إلى اندلاع أعنف المعارك، التي وثقها حجم الدمار المهول، إذ إن معظم المنازل دمرت، إما بشكل كلي أو جزئي. وتم تدمير أكثر المؤسسات في الجهة الشرقية من قبل الانقلابيين، ونهبها من قبل جماعات مسلحة بعد عملية دحر الانقلابيين منها، بينها إدارة الأمن، ومؤسسة الجمهورية للصحافة، ومكتب المحافظة، والبنك المركزي، والمتحف الوطني، وكلية الآداب، وجمعية المعوقين. وتشير عضو اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان، إشراق المقطري، إلى أن عدد المنازل المدمرة في الجحملية بلغ أكثر من 172، بينها 109 منازل دمرت بواسطة قصفها بالقذائف، و15 تم تفخيخها وتفجيرها، فيما بلغ عدد المحلات التجارية المدمرة 21، بالإضافة إلى تدمير 4 مدارس و5 مساجد و5 مؤسسات إعلامية وأمنية وخدمية تتبع الحكومة.

بائع الكتب

تعز هي المدينة التي كانت تباهي المدن اليمنية الأخرى بمدنيتها وطابعها الحضاري والثقافي، على اعتبار أنها حملت مشاعل التنوير في الحركة الثقافية اليمنية وفي سياق الحركة الوطنية بشكل عام. ولعل هذا ما جعل الحكومة تختارها كعاصمة للثقافة اليمنية. وفي تعز تقع مؤسسة السعيد للعلوم والثقافة، التي تعد من أكبر المكتبات في اليمن، وكانت تحوي مئات الآلاف من الكتب والمخطوطات الأثرية، لكن هذه المكتبة نالت نصيبها أيضاً من الحرب، إذ تم قصفها من قبل الانقلابيين لتحترق المكتبة بما فيها. وتعرضت المدينة للتهميش الثقافي طوال فترة حكم نظام الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح، وما تلاه. فلا يوجد فيها دار نشر واحد، كما أنها تفتقد إلى المكتبات التي تبيع الكتب والمجلات الصادرة حديثاً. لكن يمكنك اليوم، وأنت تعبر في أكبر شوارعها (جمال عبد الناصر) أن ترى عجوزاً يبلغ السبعين من العمر يفترش الأرض ويقوم ببيع كتب بأسعار منخفضة. كتب هيكل السياسية، ودواوين أحمد شوقي وعبدالله البردوني وعبد العزيز المقالح، وأخرى طبية وتاريخية وفكرية وسياسية وثقافية. كما قد تجد كتبا نادرة وغير متداولة أيضاً، مثل "الوثائق السرية لتنظيم الضباط الأحرار" الذي يكشف عن أسرار هذا التنظيم الثوري، الذي كان له الدور الرئيسي في تفجير ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962. وحين تسأل عن مصدر الكتب، التي يبدو عليها أنها قديمة، لا يتردد البائع في البوح بأنه يحصل عليها من بعض المسلحين الذين قاموا بنهبها من بعض البيوت التي هجرها أصحابها، أو من المكاتب العامة التابعة للمؤسسات الحكومية.

مؤسسات مدمرة

قالت نقابة المحامين اليمنيين في تعز، في تقرير صادر عنها منتصف العام 2016 ولم يتم نشره، وحصلت "العربي الجديد" على نسخة منه، إنها قامت بحصر وتقييم وضع المباني التابعة للمحاكم والنيابات القضائية ومكاتب الأجهزة التنفيذية للدولة، إذ تم حصر 80 مرفقاً حكومياً. وبحسب التقرير فإن 45 مرفقاً تعرض لتدمير جزئي، وأن معظم مؤسسات الدولة تعرضت إلى عملية نهب لبعض محتوياتها، فيما الكثير منها صالحة للعودة إلى العمل وتتطلب سرعة تسلمها من قبل الجهات التي تتبعها تلك المباني حتى لا تمتد إليها يد الجريمة وتعبث بمحتوياتها. لكن لا شيء تم حتى الآن في مسألة عودة هذه المرافق الحكومية للعمل. ولا توجد مؤسسة حكومية في تعز تعمل في مقرها كما كان في السابق.

تعز ليلاً

عند حلول المساء، وهي الدقائق الأخيرة التي يسمح فيها عادة للناس بالتواجد خارج المنزل، تصبح الشوارع شبه خالية، وتغلق أكثر المحلات أبوابها، ويعود الجميع أدراجه، لتغرق مدينة تعز في ظلام دامس وسط أهرامات القمامة المتراكمة في الشوارع والأحياء، وقلق من عدم الاستقرار وعدم الأمان. لم يعد هناك شيء في تعز يمت لعصر الدولة بصلة، فقد توقفت جميع الخدمات تقريباً من الكهرباء، والماء، والصحة، والنظافة. واستعيض عن الكهرباء بالطاقة الشمسية، فخلال الليل تجد أضواءً خافتة للغاية أمام بعض المنازل، تتم سرقتها من شمس النهار، عبر الألواح التي أصبحت تحتل مساحة على أسطح المنازل. وتعتمد تعز في بعض خدماتها على منظمات خارجية لها طرقها الخاصة في العمل ولها سقفها الزمني، بينما لا يبدو أن للحرب والمعاناة سقفاً زمنياً.