أسرار الأسرى الفلسطينيين بخطر...وشبهة "التطبيع" تُلاحق "أطباء بلا حدود"

أسرار الأسرى الفلسطينيين بخطر...وشبهة "التطبيع" تُلاحق "أطباء بلا حدود"

23 ابريل 2015
رفض الفلسطينيون مشاركة أطباء اسرائيليون (فرانس برس)
+ الخط -
وجّهت شخصيات طبية وأكاديمية فلسطينية انتقاداتها لمنظمة "أطباء بلا حدود" في بعض المناطق الفلسطينية المحتلة، وتحديداً في القدس المحتلة والخليل. وترى تلك الشخصيات أن العلاج النفسي الذي تقوم به المنظمة، دونه شكوك، لوجود أطباء إسرائيليين في العلاج، قد يساهمون بنقل معلومات عن نفسية بعض الأسرى أو عائلاتهم إلى سلطات الاحتلال.

لا تقتصر برامج منظمة "أطباء بلا حدود" على مشاريع محددة في فلسطين المحتلّة، بل تخترق أخصّ خصوصيات الفلسطيني، وهو بنيانه الاجتماعيّ والنفسيّ، في إطار "برامج الصّحة النفسيّة"، التي تستهدف بشكل أساسي العائلات المتضررة من اعتداءات الاحتلال، أي عائلات الشهداء والأسرى، بالإضافة إلى الأسرى المحررين، الخلية المجتمعيّة الأكثر حساسية في المجتمع الفلسطيني. وتعمل "أطباء بلا حدود"، بفرعها الفرنسيّ في كلّ من غزة ونابلس، وبفرعها الإسباني في القدس والخليل.

تتواجد المنظمة في فلسطين المحتلة منذ العام 1989، وتقدم خدماتها النفسيّة في كلّ من الخليل وغزة ونابلس وقلقيلية والقدس. وبحسب معلومات المنظمة بفرعها الإسباني، فقد قدّمت في العام 2014 خدماتها في الصّحة النفسيّة لأكثر من 5500 فلسطيني. ويتألف طاقم المنظمة من أجانب وفلسطينيين، يستأثر الأجانب بغالبية المناصب الإدارية المهمة فيها، بينما يقدّم الإرشاد النفسي والاجتماعي فيها غالباً مُرشدون فلسطينيون. إلا أن من يقوم بمهمة الإشراف المهني على هؤلاء المرشدين الفلسطينيين، أخصائية نفسية إسرائيلية، تعمل مع منظمة "أطباء بلا حدود" منذ حوالي الـ18 عاماً.

اقرأ أيضاً: "في غمضة عين".. معرض يوثق حياة بدويات فلسطين

وتتضمن مهمة الإشراف المهني، كما هو الحال في أي مؤسسة تمارس الإرشاد النفسي والاجتماعي، المتابعة المهنية لعمل المرشدين مع المسترشدين وتطورات العلاج الذي يقدمونه لهم، كما يدعو المشرف المرشدين عادة إلى جلسات جماعية لتبادل تجاربهم في تقديم الإرشاد ومناقشتها.

ويُتيح الإشراف الفرصة للمرشدين ليُفرّغوا الضغوطات والمشاعر التي تتراكم في دواخلهم، نتيجة انكشافهم لكميات من الألم النفسي لدى المسترشدين. وتُمارس المشرفة الإسرائيلية ما سبق من مهمات ضمن وظيفتها في "أطباء بلا حدود"، على الرغم من الحساسية التي تغلّف ذلك، ورفض عدد من المرشدين الفلسطينيين في المنظمة إشرافها عليهم، معتبرين ذلك وجهاً من وجوه التطبيع.

وتكشف مصادر مُطّلعة لـ"العربي الجديد"، أن "المنظمة وبفرعها الإسباني، تحاول فرض أجندة تطبيعية على موظفيها الفلسطينيين، وسط تسويق هذه الإجراءات على أنها نابعة من مبادىئ الحيادية والأخلاقيات الطبية التي تلتزم بها المنظمة". وتُضيف أن "المرشدين يحملون لرفضهم الإشراف الإسرائيلي أسباباً مهنية وسياسية. أما في ما يخصّ الأسباب المهنية، فتتلخص في أن الإشراف المهني في علم النفس مبني على القبول والثقة، فكيف يمكن لمرشد أن يشعر بالأمان والثقة، أمام مشرفة تنتمي لنفس مجتمع الاحتلال الذي سبب له وللمسترشد الألم النفسي، وكيف يمكنه حينها مشاركتها مشاعره وأفكاره؟ خصوصاً إذا كانت فئة المسترشدين الرئيسية هم عائلات الشهداء والجرحى والأسرى، أي ضحايا عنف الاحتلال؟".

وتُضيف المصادر أن "هؤلاء المرشدين لم يكونوا على علم بوجود المشرفة الإسرائيلية عند توظيفهم في المنظمة، ولكن بعد علمهم بذلك، كانوا يتحفظون على المشاركة في جلسات الاشراف أو مشاركة أي تفاصيل معها حول المُسترشدين الذين يقدمون لهم العلاج". وذكروا أن "المُشرفة تُطبّق آلية تحجيم الصراعات في جلساتها الإشرافية". وأعطت المصادر مثالاً على ذلك "عند الحديث عن جندي إسرائيلي يعتدي على طفل، تذكر المُشرفة للمُسترشد الفلسطيني، أن هناك إسرائيلياً غيره يساعد الفلسطينيين، وتؤدي المُشرفة بذلك دوراً يحمل دلالات سياسية".

إلا أن الشعرة التي قصمت ظهر البعير، بحسب المصادر، والتي تُفسّر الأسباب السياسية لرفض المشرفة الإسرائيلية، فكانت عندما قالت في إحدى جلسات الإشراف بالحرف الواحد: "أنا هنا لأنني إسرائيلية". ويرى المرشدون في ذلك اعترافاً مباشراً، بالنسبة إليهم فإن "اختيار شخصية إسرائيلية لتقوم بدور الإشراف، هو اختيار سياسي يخدم أجندة تطبيع العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، من خلال طَرقِ باب حساس هو الإرشاد النفسي".

اقرأ أيضاً: "أملاك الغائبين": أداة الاحتلال للقبض على القدس

بعد ذلك التصريح، أخذ المرشدون موقفاً أكثر جدية من وجود مشرفة إسرائيلية على عملهم، فقرروا مقاطعة جلسات الإشراف، وأخبروا ادارة المنظمة والمشرفة نفسها بذلك، وشرحوا لهم الأسباب التفصيلية لهذا الموقف. إلا أن المنظمة، وبحسب المصادر، قامت بتهديد مرشدين اثنين على الأقل بسبب هذه المقاطعة، وقيل لهم من قبل إدارة المنظمة إنهم سيتحملون "تبعات شخصية ومهنية" نتيجة لموقفهم هذا.

ليس الإشراف المهني وحده يطاله التطبيع في المنظمة، فقد أعلنت المنظمة لموظفيها عن تدريبات مهنية لعام 2015، منها ستة تدريبات حول "العلاج الأسري" يقدمها أخصائي نفسي إسرائيلي متخصص في بحث "العقبات النفسية أمام تحسين العلاقة بين الضحية والمجرم".

وفي هذا الصدد، أشارت إدارة البعثة الإسبانية في منظمة "أطباء بلا حدود"، لـ"العربي الجديد"، إلى أنها "توظّف موظفيها ومشرفيها بناء على معيار وحيد، وهو التزامهم بالأخلاقيات الطبية، وتوفيرهم لمستوى عالٍ من الرعاية، مع الأخذ بعين الاعتبار ما هو أكثر قبولاً بالنسبة للسكان الذين يقدمون الخدمة لهم".

ولم توضح المنظمة هنا كيف تحدد ما هو المقبول وغير المقبول في المجتمع الفلسطيني، لكنها أكدت على حصولها على شرعية إجراءتها، عبر ارتباطها بعلاقة شفافة وواضحة مع الوزارات الفلسطينية والمؤسسات التي تتعاون معها، وأن هذه الأخيرة تعرف عن طريقة "أطباء بلا حدوط" في العمل، وفقاً للمنظمة.

غير أن مصادر مطلعة أكدت لـ"العربي الجديد"، أن "إدارة المنظمة كانت تتخبط في تقديم التبريرات لموظفيها، في ما يخصّ هؤلاء المدربين والمشرفين الإسرائيليين، فتارة تقول إنها كمنظمة إنسانية يجب أن تلتزم بالحيادية، وأنها لا تستطيع رفض مدرب إسرائيلي بناء على كونه إسرائيلياً، وفي مرات أخرى، كانت تقول بأن اختيارها لهؤلاء الإسرائيليين، نابع بالأساس من الفجوة والنقص الكبير لدى المدربين الفلسطينيين".

وفي حين تؤكد المنظمة أن حضور هذه التدريبات من قبل المرشدين الفلسطينيين اختياريّ، تؤكد مصادر "العربي الجديد" أن "التدريبات في بدايتها كانت إجبارية لجميع المرشدين بمختلف تخصصاتهم، وبعد رفض عدد من المرشدين المشاركة فيها، جعلت إدارة المنظمة حضورها إجبارياً فقط للمرشدين النفسيين". وتضيف أن "التنقل بين فرض التدريب وبين جعله اختيارياً ليس إلا تكتيكاً تمارسه المنظمة، حتى تفلت من الضغوط التي تمارسها جهات عديدة عليها".

وتلفت المصادر إلى أن "العلاقة تأزمت بين المنظمة وأحد مرشديها الفلسطينيين، نتيجة إصرارها على توظيف إسرائيليين في مواقع التدريب والإشراف، مما دفعه إلى تقديم استقالته مطلع مارس/آذار الماضي. وفي مقابلات التوظيف لملء المنصب الشاغر الذي تركه المرشد المستقيل، كانت المنظمة تسأل المتقدمين عن استعدادهم لمعالجة حالات إسرائيلية، أو تلقّي تدريبات على يد إسرائيليين". وتشير إلى أن "أحد الأطباء النفسيين الفلسطينيين العاملين مع "أطباء بلا حدود"، قد سبق أن فُصل من عمله فيها بطريقة تعسفية في العام 2009، لأسباب شبيهة ولاعتراضه على قضايا فساد فيها".

من جهته، كشف أمين سر نقابة الأخصائيين النفسيّين والاجتماعيين في الخليل عبد الله النّجار، في تصريحات لـ"العربي الجديد" أن "وفداً من النقابة التقى بممثلين عن المنظمة، ونقل لهم موقف النقابة الواضح ضدّ التطبيع واللقاءات مع إسرائيليين، تحت مسميات تقديم العلاج النفسي". ويشير النجار إلى "استعداد النقابة لاتخاذ مواقف حازمة وتصعيدية، في حال أصرت منظمة أطباء بلا حدود على موقفها".

ويقول النجار "هذه الأفكار لا تتناسب مع توجهاتنا الوطنية والاجتماعية والمهنية، ونحن لا نقبل حتى أن يكون التدريب مع مدربين إسرائيليين اختيارياً، لا فرق عندنا بين الاختياري والاجباري، فهذا يعني ضمناً أن هناك سياسة تصنيف على أساس الموقف الوطني". ويلفت النظر إلى أن "قطاع الاخصائيين الاجتماعيين والنفسيين يشكل القطاع الثاني في الضفة وغزة، بعدد العاملين فيه بعد قطاع التعليم"، مؤكداً أنه "يجب عدم السماح لبرامج التمويل الأجنبي ولأجندة التطبيع باختراق هذا القطاع الهام".

كذلك ذكر أحد أعضاء النقابة عن محافظة الخليل، رفض الكشف عن اسمه، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "التوجه لدى منظمة أطباء بلا حدود لا علاقة له بالاحتياج المهني". ولفت إلى "وجود عدد كافٍ من الكفاءات الفلسطينية المدرّبة، والتي تستطيع ملء شواغر الإشراف المهني، إلا أن المنظمة تقوم بتوظيف إسرائيليين، ضمن أجندة سياسية تريد تبييض وجه الاحتلال وتطبيع العلاقات بين الفلسطينيين والإسرائيليين".

ولدى سؤاله عن رأيه بمبدأ "الحيادية وعدم التحيز" الذي تعلن عنه المنظمة، رفض عضو النقابة إسقاط مفهوم "الحيادية" على السياق الفلسطيني، مشيراً إلى أن "مبدأ كهذا يصلح في مجتمع فيه صراع طائفي أو سياسي داخلي، بينما لا يدور الحديث عن ذلك في حالة فلسطين". ويتفق العضو في النقابة مع أمين سرّها في "استعداد النقابة للتصدي لأي أجندة تطبيعية، تحاول المنظمات الدولية فرضها على المرشدين النفسيين"، ويقول "أتحدى أن تجدوا أي نقابي يجرؤ على اعطاء شرعية لأمر خطير كهذا".

وفي ردٍّ على سؤال، حول ما الذي يغري في مجال "الإرشاد النفسي" ليجعله هدفاً يمرر من خلاله التطبيع؟ تجيب الأستاذة في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، لينا ميعاري، إن "الإرشاد أو العلاج النفسي ليس مجرد تقديم إرشاداتٍ لشخص ما، بل ينطوي أيضاً على عملية تشكيل للبنية النفسية للمتلقّي وإعادة إنتاجها وفق رؤية معينة".

وتُشدّد ميعاري على أن "الطرق العلاجية، خصوصاً تلك المستقاة من طرح غربي، تعمل على نزع العنصر السياسي من العنصرين الاجتماعي والنفسي، وتتعامل مع السياق الفلسطيني وكأنه سياق حيادي، يحتاج إلى خبراء ومهنيين، وبالتالي قبول الواقع الاستعماري". وتضيف "نرى أن الكثير من برامج الصحة النفسية التي تنفذ في الضفة، ترى في العنف الثوري خللاً تجب معالجته، بهدف تحويل ممارسه إلى إنسان متسامح بعيد عن مشاعر الحقد والأخذ بالثأر".

ولا تُدرج الأمر في إطار "محاولات المنظمات الدولية أو التمويلية، فرض شروطها بتوظيف مشرفين ومدربين إسرائيليين"، بل "تُنبه" إلى "ضرورة أن يحمل الفلسطينيون العاملون في مجال الإرشاد النفسي، رؤى علاجية واعية للسياق الاستعماري الذي يعيشونه".

وتضرب ميعاري مثالاً على ذلك، بالقول إن "بعض المؤسسات تنظر إلى الأسرى الفلسطينيين بعد تحرّرهم، كمجرد ضحايا يحتاجون إلى العلاج النفسي". وتشير في المقابل إلى أن "الأسير بطل ومتمرد ومتحدي، وليس بالضرورة أن تجربة التحقيق والتعذيب والاعتقال قد دمّرت نفسيته، بل ربما على العكس عززت من قوته على الصمود".

إضافة إلى ذلك، فإن التعامل مع الإرشاد النفسي من منظور السياق المحلي يكشفنا على وسائل متنوعة لتقديم الدعم النفسي. وتشرح ميعاري "في كثير من الأحيان، لا يحتاج الأسير سوى بعض التقدير والدعم المجتمعي لمواصلة حياته، من دون أدنى حاجة إلى جلسات إرشادية وعلاجية نفسية، وهذا ما تحاول مشاريع التمويل الأجنبي تحجيمه".

من جهته، اعتبر المدير العام للرعاية الصحية الأولية بوزارة الصحة الفلسطينية، أسعد الرملاوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "من الصعب مراقبة عمل المنظمات الدولية، وهي ليست تابعة لوزارة الصحة إنما تتبع لسفاراتها ودولها". وحين سؤاله عن تجنيد منظمة "أطباء بلا حدود" لمشرفين ومدربين إسرائيليين، قارن بين ذلك وبين "ذهاب الأطباء الفلسطينيين إلى مستشفيات إسرائيلية لتلقي التدريب المهني اللازم"، وأضاف: "لكن ممنوع دخول الإسرائيليين إلى الضفة الغربية".

اقرأ أيضاً: "عطيرات كوهنيم"... ذراع إسرائيل لتهويد القدس

المساهمون