إيران تنهي العمل بقيود "النووي": فرص الإنقاذ شبه معدومة

إيران تنهي العمل بقيود "النووي": فرص الإنقاذ شبه معدومة

07 يناير 2020
وقف العمل بالقيد حول عدد أجهزة الطرد المركزي (الأناضول)
+ الخط -
تزامناً مع زحمة التطورات الساخنة بعد اغتيال قائد "فيلق القدس" الإيراني الجنرال قاسم سليماني، فجر يوم الجمعة الماضي، بغارة أميركية في بغداد، وفي ظلّ التهديدات الإيرانية المتصاعدة بـ"رد مزلزل ومروع"، أعلنت الحكومة الإيرانية، أول من أمس الأحد، المرحلة الخامسة و"النهائية" من تقليص تعهداتها النووية. وجاء الإعلان عشية انتهاء مهلة الـ60 يوماً الرابعة، التي كانت طهران قد منحتها سابقاً للأطراف الأوروبية للوفاء بتعهداتها الاقتصادية، لدعم موقفها في مواجهة العقوبات الأميركية.

وأكدت الحكومة الإيرانية، في بيانٍ، أنها خلال هذه المرحلة، ستوقف الالتزام بالقيد الوارد في الاتفاق النووي حول عدد أجهزة الطرد المركزي الـ5060، المسموح باستخدامها وفق الاتفاق. وكانت طهران تستخدم قبل التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015، نحو 19 ألف جهاز للطرد المركزي.

بالإضافة إلى ذلك، شدّدت الحكومة الإيرانية على أنه بهذه الخطوة، تكون قد كسرت كافة القيود التي فرضت على برنامجها النووي "في المجال العملياتي"، أي في مجالات كمية تخصيب اليورانيوم ومستوى التخصيب وإنتاج اليورانيوم المخصب والتطوير والبحث النووي. وأشارت إلى أن البرنامج النووي الإيراني سيتقدم "وفقاً لاحتياجات البلاد الفنية"، ما يعني أن الاتفاق النووي الذي فرض قيوداً صارمة على هذا البرنامج، لم يعد له دورٌ في رسم ملامحه ومستقبله.

وتؤكد المرحلة الخامسة، كونها المرحلة الأخيرة، والتي تنهي بها إيران جميع القيود "العملياتية" على برنامجها النووي بالاتفاق النووي، على عدد من النقاط. أولاً، أنه لم يعد هناك "تعهدٌ نووي" توقفه طهران لاحقاً، إلا "الرقابة الصارمة" للوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن بما أن هذه الرقابة كان الغرض منها تقييم الالتزام بالتعهدات النووية المنصوص عليها في الاتفاق النووي، وما دامت إيران أوقفت هذه التعهدات، فتبقى الرقابة في هذا المجال بلا قيمة ومغزى، لكنها تبقى كأداة للمراقبة على البرنامج النووي الإيراني لعدم توجهه نحو مسار غير سلمي، وهو ما تؤكد السلطات الإيرانية أنه "لن يتجاوز مساره السلمي". وثانياً، أن مضمون البيان الصادر عن الحكومة الإيرانية يؤكد أنها تكون قد سحبت جهاز التنفس الصناعي عن الاتفاق النووي، الذي أدخله الانسحاب الأميركي منه إلى غرفة العناية المركزة منذ الثامن من مايو/ أيار 2018. ويعني هذا الأمر من جهة، انسحاباً غير معلن من الاتفاق النووي، ومن جهة ثانية، العودة إلى مرحلة ما قبل التوقيع على الاتفاق عام 2015.

وإذا كان السؤال الملح اليوم يتركز حول سبب إنهاء طهران العمل بكافة القيود "العملياتية" المفروضة على برنامجها النووي، فإنّ الإجابة تقود إلى توقيت هذه الخطوة، إذ إنها جاءت بعد ثلاثة أيام من اغتيال قاسم سليماني، أبرز الجنرالات الإيرانيين، حامل وسام "ذو الفقار"، الذي لم يمنح لغيره منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، وفي ذروة التهديدات الإيرانية بالانتقام والثأر، وعشية مراسم تشييع سليماني المليوني في طهران. ويشي ذلك بأن التصعيد الذي مارسته طهران بهذه الخطوة في الموقف من الاتفاق النووي، يمكن اعتباره جزءاً من بنك الردود الإيرانية على اغتيال قائد "فيلق القدس"، الذي يمكن القول إن واشنطن، من خلال قتله، أطلقت هذه المرة رصاصة الرحمة على الاتفاق النووي. وكان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، عباس موسوي، قد أشار إلى ذلك بطريقة أو أخرى، أول من أمس الأحد، عندما قال إن بلاده كانت قد اتخذت قرارها بشأن خطوات المرحلة الخامسة من تقليص تعهداتها النووية، إلا أنه "بعد الأحداث الأخيرة، سينعقد اجتماع مهم، مساء الأحد، لإجراء تغييرات في القرار واتخاذ القرار النهائي"، وهو ما حدث بالفعل، وتمخض عنه بيان الحكومة.


وهنا، لا يخفى أن المواقف الأوروبية من اغتيال سليماني، التي تراها طهران مؤيدةً للتصرف الأميركي، قد أدت دوراً متغيراً مستجداً ومؤثراً في دفع إيران إلى إجراء هذه التغييرات. وكانت طهران قد وجهت خلال الأيام الماضية انتقاداً "حاداً" لهذه المواقف، معتبرة إياها "مشاركة" أوروبية في الهجوم الأميركي، وخصوصاً الموقف الألماني الذي رأى أن سليماني قام بنشاطات مزعزعة في المنطقة.

فضلاً عن ذلك، يبدو أن طهران وجدت في هذه الأجواء المشحونة فرصة للخروج من أعباء اتفاق ظلّت هي الجهة الوحيدة التي تنفذه لـ20 شهراً، من دون أي مقابل، إذ إن هذا التصعيد "النووي"، لو حدث في ظروف أخرى، لكان من شأنه أن يجلب ردود فعل عاجلة من قبل الأوروبيين، في ظل تهديداتهم السابقة بتفعيل آلية "فض النزاع"، التي من شأنها أن تعيد الاتفاق النووي إلى مجلس الأمن وتفرض بموجبه مجدداً العقوبات الأممية على إيران. في المقابل، قد لا تواجه أوروبا، القلقة من تطورات اغتيال سليماني، واحتمال اندلاع مواجهة شاملة، حالياً الإجراء الإيراني بتصعيد مماثل في هذه الظروف، بعدما أعلنت أنها تسعى لنزع فتيل الأزمة المتصاعدة بعد هذا الاغتيال.

وتعليقاً على إعلان طهران خطواتها خلال المرحلة الخامسة من تقليص التعهدات، أعرب وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، أمس الإثنين، عن "أسفه العميق"، مضيفاً في تغريدة على "تويتر"، أن "التطبيق الكامل للاتفاق حول النووي من قبل الجميع يعد اليوم أهمّ من أي وقت مضى، من أجل الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي". وقال إنه "يعمل مع كل المشاركين (في الاتفاق) على المسار الذي يجب سلوكه". وأشار بوريل إلى أن الاتحاد الأوروبي سيعتمد على عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتقييم العواقب.                                        
من جهته، قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، أمس، إن القوى الأوروبية سترد هذا الأسبوع على إعلان إيران عدم الالتزام ببنود الاتفاق النووي الموقع عام 2015. ولفت إلى أن الأوروبيين سيتحدثون إلى إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وسيتخذون قراراً منسقاً. 

بدوره، رأى مكتب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، أمس، أن إعلان إيران "يبعث على القلق". وأضاف: "كنا نقول على الدوام إن الاتفاق النووي هو اتفاق ذو طبيعة تبادلية، وفي أعقاب الإعلان الإيراني، نجري محادثات بشكل عاجل مع الشركاء حول الخطوات المقبلة". وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، قد دعوا في بيان مشترك صدر عنهم أول من أمس الأحد، إيران، إلى "سحب كل الإجراءات التي لا تتوافق مع الاتفاق النووي".

من جهتها، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في بيان أمس، أنها ستبلغ الدول الأعضاء بأي تطورات في إيران حسبما يقتضي الأمر. وقالت الوكالة في بيان، إن "مفتشو الوكالة يواصلون القيام بعمليات التحقق والمراقبة في البلاد"، لافتة إلى أن الوكالة "ستبقي الدول الأعضاء على اطلاع بشأن أي تطورات في هذا الصدد في حينه، وحسبما يقتضي الأمر".

من جهتها، رأت الخارجية الروسية، أمس الاثنين، أن قرار إيران عدم الالتزام بالقيود على تخصيب اليورانيوم لا يشكل أي تهديد بانتشار الأسلحة النووية، موضحة أنّ موسكو لا تزال ملتزمة تماماً بالاتفاق النووي الإيراني وأهدافه.

إلا أنه على الرغم من إنهاء إيران العمل بالاتفاق النووي عملياً، وإبقائه حبراً على ورق، واسماً فارغاً من مضمونه، دون الإعلان عن انسحابها منه رسمياً، فإنها لم تغلق الباب نهائياً بل أبقته مفتوحاً، لإنقاذ الاتفاق، بطريقتين. الأولى أنها بعد إنهاء القيود، تجنبت تصعيداً كبيراً في التنفيذ، وهو مثلاً الإعلان عن رفع مستوى التخصيب إلى مستويات عالية، أكثر من 20 في المائة فصاعداً، أو القول إنها ستستقدم آلاف أجهزة الطرد المركزي للاستخدام. والطريقة الثانية، هي الإعلان عن الاستعداد للعودة إلى تنفيذ تعهداتها النووية، التي أوقفتها، بشرط تطبيق بقية الأطراف تعهداتها "بشكل مؤثر"، وفق تغريدة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، مساء الأحد، تعليقاً على الخطوة الجديدة.

لكن فرص تحقيق هذا الشرط الإيراني القديم - الحديث المطروح منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق، أصبحت بعد اغتيال سليماني شبه معدومة، إن لم تكن معدومة بالكامل، وهي محكومة بتطورات ما بعد هذا الاغتيال، التي ستكون فاصلة في الصراع الإيراني - الأميركي، على ضوء التهديدات الإيرانية بالرد وتهديدات أميركية مضادة، ما يرفع حظوظ المواجهة العسكرية من جهة، وينهي عهد الفرص الدبلوماسية "الضيقة"، التي عملت على استثمارها الوساطات الإقليمية والدولية لإطلاق مفاوضات بين الطرفين، من جهة ثانية.

اليوم، وبعد انهيار ركني الاتفاق النووي، المتمثلين في التعهدات النووية التي أوقفتها طهران، ورفع العقوبات التي أعادتها واشنطن أقوى من قبل، الكرة باتت في ملعب أوروبا، لتصدر من جهتها، شهادة الوفاة للاتفاق من خلال تفعيل آلية "فض النزاع"، وتصطف بالكامل إلى جانب واشنطن، أو تتجنب هذه الخطوة حالياً خشية من زيادة التوترات أكثر مما عليه اليوم. لكن إذا لم تقدم أوروبا على هذه الخطوة خلال الأيام المقبلة، فمن المتوقع أن تفعلها، ولو بعد حين.



 

 

 

المساهمون