ذكرى مجزرة رابعة: الشهود مسجونون أو مطاردون أو مهجرون

ذكرى مجزرة رابعة: الشهود مسجونون أو مطاردون أو مهجرون

14 اغسطس 2019
خلال جريمة الفض (محمد عبد المنعم/فرانس برس)
+ الخط -
تمرّ الذكرى السادسة لمذبحة فضّ اعتصام أنصار الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، بميدان رابعة العدوية، في 14 أغسطس/ آب 2013، ووحدها الذكريات المؤلمة تجمع المعتصمين من غير المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، بعد أن تفرقت بهم السبل، وباتوا في مغارب الأرض ومشارقها.

صديقتان تفرّقتا
من بين الشهود، صديقتان تعملان في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني، ومسؤولتان عن رصد وتوثيق وقائع اعتصام أنصار الرئيس الراحل محمد مرسي بميدان رابعة العدوية، منذ اللحظة الأولى، وتحديداً في 28 يونيو/ حزيران 2013، حينما تجمع أنصار الرئيس المنتخب بميدان رابعة العدوية وأعلنوا الاعتصام لدعمه ضد تظاهرات معارضة كانت مرتقبة في نهاية الشهر ذاته، التي عرفت بتظاهرات 30 يونيو 2013. كانت الصديقتان تزوران الميدان بشكل شبه يومي، لرصد كل ما هو جديد والتقاط الصور، والتحدث مع المعتصمين وقيادات جماعة الإخوان المسلمين في بعض الأحيان.

تحكي إحداهما بعضاً من ذكرياتها قائلة: "في يوم من أيام الاعتصام، بعد تظاهرات 30 يونيو 2013، قابلت سيدة، أعتقد أنها كانت على مشارف الخمسين من العمر، وسألتني: هل صحيح أن هناك معتصمين في ميدان التحرير؟ فأجبتها نعم. ففاجأتني متسائلة: وياما كدا زينا؟ قاصدة هل هم كُثُر مثلنا. فأجبتها. نعم". وتضيف الناشطة التي فضلت عدم ذكر اسمها: "عرفت من سؤال تلك السيدة، أنها غير ملمّة بأي أحداث سياسية. قد لا تكون على دراية بما يحدث حولها، ولا لمَ هي هنا بميدان رابعة، ولم هم هناك بميدان التحرير. أشفقت عليها. أتذكرها طوال الوقت. وأتساءل أين هي الآن؟ وماذا ألمّ بها؟ هل قتلت؟ وإذا كانت قد نجت من المذبحة هل أدركت الآن ما كان وما يكون؟ جميعها أسئلة بلا إجابات. فقط أدعو لها بالرحمة إذا كانت حية أو ميتة".

هاتان الصديقتان، شاركتا المعتصمين وقائع المذبحة، فتقول إحداهما: "يوم فضّ الاعتصام، لم نكن بالميدان، فلسنا معتصمين، ولكن متضامنين تماماً معهم، ومقتنعين بعدالة قضيتهم. وعلمنا فجراً أن قوات الأمن المصرية من الجيش والشرطة بدأت فض الاعتصام، فتوجهنا على الفور إلى ميدان رابعة العدوية ودخلناه من شوارع جانبية، تعرفها جيداً صديقتي التي تقطن بحي مدينة نصر، حيث يقع الميدان". وتضيف: "شاركنا المعتصمين تكسير الحجارة لإلقائها على قوات الأمن، وأسعفنا المصابين بقدر استطاعتنا، وساعدنا الكثير على الفرار لإلمامنا بالشوارع الجانبية للميدان. شاركنا في كل تفاصيل هذا اليوم كما لو كنا معتصمين منذ اللحظة الأولى. ودوّنا شهادتنا تلك في كل التقارير الحقوقية التي خرجت بعد ذلك لتحكي ويلات الفض". هاتان الصديقتان، إحداهما تعيش في مصر حالياً، ولا تزال تعمل في إحدى المنظمات الحقوقية المصرية، وتواجه ضغوطاً بينما تكمل طريقها في مجال المجتمع المدني في مصر. أما الأخرى، فأجبرها والداها على السفر لإحدى الدول الخليجية حيث يقيمان.

قصة أستاذة وعائلتها
قصة أخرى من قصص الاعتصام، ترويها أستاذة جامعية ليست من جماعة الإخوان المسلمين، لكنها متزوجة بطبيب مصري عضو في الجماعة منذ الصغر. تقول: "كان زوجي دائم التردد على الاعتصام. ويبيت هنالك أحياناً. أما أنا فلم أشاركه الاعتصام سوى في اليوم الأخير. ليلة الفض. فقد كنت أوازن بين عملي في الجامعة والاهتمام بطفلي الرضيع، والمسؤوليات التي تركها زوجي على عاتقي ليشارك هو في الاعتصام". تضيف أنه "صبيحة يوم 14 أغسطس 2013، وما إن علمت ببدء فض الاعتصام تركت طفلي عند والدتي وتوجهت فوراً لميدان رابعة العدوية لمؤازرة زوجي. لم أستطع الوصول إليه لساعات، حتى وجدته بالصدفة في المستشفى الميداني يسعف المصابين". وتتابع: "بقيت بجانبه، ساعدته في مهمته الإنسانية حتى أصيب هو بطلق ناري في ساقه، فقضينا باقي يومنا نبحث عن مستشفى يقبل إجراء جراحة عاجلة له. جميع المستشفيات المحيطة بالميدان رفضت علاجه. لكنّ زملاءه الأطباء له ساعدونا أخيراً في إجراء الجراحة في إحدى العيادات الخاصة".
واجهت الأستاذة الجامعية وزوجها الطبيب صعوبات كثيرة بعد ذلك في عملهم. تتحدث عما جرى معهما، قائلة: "كان معروفاً أن زوجي من الإخوان، وضيّقوا عليه الخناق، وحاربوه في لقمة عيشه، وكان مهدداً طوال الوقت. وأنا مررت بمثل هذا السيناريو ولكن ليس بهذه الدرجة من الصعوبة والخنق". استمرت التهديدات تراود الطبيب حتى أُجبر على ترك عمله الحكومي، والاكتفاء بعمله الخاص، ثم ازدادت المضايقات الأمنية، وبات الرعب مسيطراً مع كل حملة أمنية تستهدف المعارضين في مصر، وخصوصاً أعضاء الجماعة. وتتابع: "اضطررنا للتنقل والترحال كثيراً، حتى انتهى بنا المطاف هاربين من مصر إلى دولة أوروبية. ولا نعرف متى وكيف سوف نعود".

فرقهما السجن وجمعهما الكابوس
نسيت آية (اسم مستعار)، التي كانت تعتصم في ميدان رابعة العدوية مع شقيقها تفاصيل الاعتصام، كيف مرّت الأيام والأحداث، لكنها أبداً لا تنسى يوم الفض، تحديداً عندما ألقي القبض على شقيقها، الذي زجّ به في السجن في قضية فض اعتصام رابعة العدوية، وحكم عليه بـ15 عاماً. تحكي آية تفاصيل المكالمات الهاتفية التي يجريها شقيقها كلما سنحت له الفرصة داخل الزنزانة. تقول إنه "أحياناً يتمكن المعتقلون من إخفاء هاتف صغير داخل الزنزانة، يتم شحنه من قِبل أسرهم بالخارج، وكنت أستقبل أحياناً اتصالات هاتفية من شقيقي بعد منتصف الليل". وتضيف: "تارة يتصل ولا يتحدث، ويسأل فقط عن الأهل والأقارب. يريد معرفة كل جديد. يريد أن يعرف مَن تزوّج ومن أنجب، ومن سافر ومن بقي، من تغير موقفه ومن بقي على العهد. وتارة أخرى، لا يتوقف هو عن الحديث، وتطول المكالمات لساعات يحكي فيها عن أعبائه وهمومه، وعن أصدقائه وزملائه في السجن. عن المعاملة والتعنت، وتفاصيل المعيشة الرتيبة والأيام المتطابقة". وتنوّه بأنه "ذات مرة، حكى لي عن كابوس يراوده، يبكي فيه وسط برك دماء وأشلاء ودمار. أنا أيضاً كثيراً ما يراودني مثل هذا الكابوس، لم أحكِ له عنه أبداً، لا أريد تحميله مزيداً من الأعباء، لكن أسأله في كل اتصال: هل لا يزال الكابوس يراودك؟ فيجيب: كل ليلة".
رحلة ميكروباص
يخرج عبد الرحمن (اسم مستعار) من بيته كل يوم، يستقل ميكروباص ينادي "سكة. رابعة. أول عباس. أول مكرم"، وجميعها أسماء محطات أحياء متتالية في مدينة نصر حيث مقر عمله. يقول: "لا أنسى رابعة أبداً. أمرّ عليها يومياً، وأمعن النظر فيها، وأتعجب كيف تغير الحال". ويضيف عبد الرحمن: "خلال أيام الاعتصام. كانت عربات الميكروباص تتخذ طرقاً أخرى من وإلى مدينة نصر. لم يكن الأمر شاقاً، وكنت أنهي عملي وأتوجه لميدان رابعة مباشرة. أشارك في الاعتصام قدر المستطاع. أقضي ساعات مع رفاقي وأعود للبيت".

كان اليوم التالي للفض مؤلماً بالنسبة لعبد الرحمن، إذ مرت سيارة الميكروباص للمرة الأولى منذ نحو شهر من ميدان رابعة العدوية، بعد فضّ الاعتصام وتجريفه تماماً. يقول: "لم أتمالك دموعي وأنا أمر من هناك. كل رقعة تقع عليها عيني لي فيها ذكرى. هنا كنا نأكل وهنا كنا نتسامر، وهنا فقدت صديقي، وهنا قُتل أمامي شخص لا أعرفه. وهنا شاهدت الرعب والفزع في عيون النساء والأطفال". تألم عبد الرحمن ثانية، عندما أصدرت الحكومة المصرية قراراً بتغيير اسم الميدان من "رابعة العدوية" إلى "الشهيد هشام بركات"، يقول: "كانت عربات الميكروباص تنادي بلؤم وسخرية مختلطة بالشماتة: سكة. هشام بركات. أول عباس. أول مكرم. استمر النداء هكذا أياماً معدودة، وعادوا للنداء الأصلي مجدداً لسهولته وقُربه من آذان الركاب".

كان مجلس الوزراء المصري، قد وافق في 15 يوليو/ تموز 2015، على إطلاق اسم النائب العام المصري الراحل هشام بركات، على ميدان رابعة العدوية بالقاهرة. وكان بركات، هو من أصدر قراراً بتنفيذ عمليتي فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس/ آب 2013، الذي شهد مذبحة راح ضحيتها المئات وغيرهم ملقين في السجون المصرية إلى اليوم. واغتيل بركات فيما نجا جميع طاقم حراسته، يوم 29 يونيو/ حزيران 2015.

بحثاً عن الأمان
كان السفر إلى تركيا هو الحل الآمن والوحيد أمام مصطفى (اسم مستعار)، بعدما أُلقي القبض عليه خلال مسيرة رافضة للانقلاب العسكري بإحدى ضواحي حلوان جنوبي القاهرة، بعد مذبحة رابعة العدوية. كان مصطفى حينها طالباً في المرحلة الثانية، عندما ألقي القبض عليه مع عدد من رفاقه، وبقوا في السجن أياماً عدة، قبل أن يُخلى سبيلهم بكفالة مالية على ذمة قضية. بعدها، وفي كل حملة أمنية تستهدف معارضين وأعضاءً في جماعة الإخوان المسلمين، كان محامي مصطفى ينصح عائلته بإبقائه بعيداً عن المنزل لفترة. تكرر هذا السيناريو كثيراً، حتى نصحهم المحامي أخيراً، بإيجاد طريقة آمنة يسافر من خلالها خارج مصر، بعد ورود معلومات بأن السلطات بصدد فتح القضايا المعلقة وضم المزيد لها، واستدعاء مَن هم على ذممها. بالفعل تمكنت أسرة مصطفى من تدبير مبلغ مالي، بعد أن باعت سيارة وشقة سكنية لدفع مبلغ لمهربين يساعدونه على السفر لتركيا. وباقي المبلغ يساعده في تحمُّل نفقات المعيشة في الغربة وحيداً، حتى يتمكن من الالتحاق بجامعة والبحث عن أي فرصة عمل. غادر مصطفى إلى تركيا وهو ابن 17 عاماً. لم يتمكن من العودة أبداً. وتمكن من رؤية والده ووالدته قبل عامين، عندما سافرا إلى تركيا.