"داعش" بعد سرت الليبية: الوجهات المحتملة وكرونولوجيا تحرير "العاصمة"

"داعش" بعد سرت الليبية: الوجهات المحتملة وكرونولوجيا تحرير "العاصمة"

07 ديسمبر 2016
كان حي الجيزة آخر الأحياء المحررة (محمود تركية/فرانس برس)
+ الخط -
لا يكفي إعلان قوات "البنيان المرصوص"، التابعة لحكومة الوفاق الليبية، انتهاء معركة تحرير سرت من تنظيم "داعش"، أو قرب انتهائها، لطي صفحة "عاصمة" التنظيم في الشمال الأفريقي. فإن كانت سيطرة "داعش" على المدينة الاستراتيجية الساحلية قد دامت عاماً ونصف العام فحسب، وانتهت بعد أشهر من القتال بحصيلة قتلى وجرحى كبيرة من عسكريين ومدنيين، فإن حسم هوية الطرف الذي سيمسك بزمام السيطرة عليها يرجح أن يطول فترة من الزمن. كثيرة هي الأطراف التي ترغب في إدارة المدينة، بين قوات اللواء خليفة حفتر التي لم تساهم بتاتاً في المعركة، وتفرغت لمعاركها ضد مسلحي ومدنيي المدن الرافضة لوجودها، من درنة إلى بنغازي، من جهة، والفصائل المحسوبة على حكومة فائز السراج، من جهة ثانية، يبقى همّ "داعش" في ليبيا كبيراً، حتى ولو أعلن بالفعل عن انتهاء وجوده الجدي في سرت، بما أن لغز اختفاء آلاف من مقاتليه لا يزال بلا أجوبة. فبحسب تقديرات ليبية متفائلة، لا يزيد عدد قتلى داعش في المدينة عن الألف بأحسن الأحوال، بينما لا تزال التقارير الاستخبارية الأميركية والأوروبية تتحدث عن وجود بين خمسة وستة آلاف من عناصر التنظيم داخل هذه المدينة. من هنا، ينشغل الوسط الليبي والعالم بأسره بأمر تتبع الطريق الذي سلكه العدد الباقي من هذه العملية الحسابية، أكان باتجاه الجنوب الليبي، أو نحو مدن أخرى في الشرق و/أو الغرب و/أو الوسط الليبي. 

لكن بجميع الأحوال، بدا أمس الثلاثاء أن أمر إعلان انتهاء وجود "داعش" رسمياً من المدينة، بقي مؤجلاً إلى حين إنجاز الاتفاقات الخاصة بإدارة المدينة وبهوية من يديرها بالتحديد. وجاء السقوط عقب أشهر طويلة استولدت هواجس غربية، وأوروبية تحديداً، من احتمال وصول التنظيم إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، وتنفيذه لمزيد من الاعتداءات، بعد هجمات عدة شهدتها فرنسا وبلجيكا وألمانيا في العامين الأخيرين. وفي سيناريو أقرب إلى المشاهد العراقية، "اختفى" بعض عناصر التنظيم من المدينة، وسط ترجيحات متفاوتة حول احتمال انتقالهم إلى أماكن أخرى، شرقاً نحو بنغازي وضواحيها، أو غرباً نحو طرابلس ومحيطها. لكن أكثر المراقبين رجّحوا احتمال انتقال العناصر إلى الجنوب الليبي، تحديداً عند أحد المثلثين، إما المثلث الحدودي التشادي ـ الليبي ـ السوداني، أو المثلث الحدودي الجزائري ـ الليبي ـ النيجري. ما يعني ذلك احتمال تحوّل الجنوب برمّته إلى ساحة صراع داخلي، تتداخل فيه عوامل قبلية وإثنية، يؤدي في نهاية المطاف إلى سيطرة "داعش"، فاسحاً المجال أمام اهتزازات أمنية تُصيب بلداناً نأت بنفسها إلى حدّ ما عن القضية الليبية، قياساً على غيرها، كالجزائر والنيجر وتشاد والسودان.

ورجّح قادة "البنيان المرصوص" فرار عشرات المسلّحين من سرت، قبل إحكام الحصار عليها مطلع يوليو/تموز الماضي، إلى خارج المدينة. كما أن قيادة قوات "أفريكوم"، أعلنت أواخر الشهر الماضي، عن بدئها مرحلة "تقصّي الحقائق حول تقارير وردتها عن إمكانية فرار مئات المقاتلين من سرت"، معلنة عزمها مراقبتهم من خلال طيرانها الذي يشارك في العمليات القتالية بالمدينة. كما نوّهت بأنها "تراقب عن كثب حركة بعض قيادات داعش الهاربين من سرت، التي وصلت إلى مناطق بغرب ليبيا، وأخرى بدول الجوار الليبي من دون أن تسمّيها". وكانت مصادر خاصة من مدينة بني وليد قد أكدت لـ"العربي الجديد"، أن "قوات جوية قصفت، في أغسطس/آب الماضي، رتلاً لسيارات مسلحة تابعة لداعش في وادي سوف الجين جنوب المدينة"، مرجّحة أن "يكون الرتل تابعاً لعناصر فرّت من سرت، وحاولت الاحتماء بجغرافية المكان وتضاريسه الصعبة".

وفي هذا السياق، أفاد المتحدث باسم عملية "البنيان المرصوص"، محمد الغصري، في حديث مع "العربي الجديد"، يوم الإثنين، أن "قوات الرئاسي تسيطر تماماً على حي الجيزة البحرية، آخر معاقل التنظيم بالمدينة"، مشيراً إلى أن "مهمة إعلان التحرير موكلة للمجلس الرئاسي". من جهته، أكد عضو المكتب الإعلامي لعملية "البنيان المرصوص"، أحمد الروياتي، مساء الإثنين، مقتل "ما يزيد عن ألف عنصر تابع لداعش منذ بدء المعارك في سرت"، مرجّحاً أن "يكون حجم عدد مقاتلي داعش في سرت لا يتجاوز 1500 مقاتل". لكن مسؤولين غربيين أكدوا في أوقات سابقة "أن مقاتلي داعش في سرت يتراوح عددهم ما بين خمسة آلاف إلى ستة آلاف مقاتل".

بدوره، كشف المتحدث باسم المستشفى الميداني، أكرم قليوان، لـ"العربي الجديد"، عن أن "المستشفى استقبل منذ بدء الحرب على سرت 712 قتيلاً و3210 جرحى من قوات البنيان المرصوص". وأشار إلى أن "التنظيم يمتلك قدرة قتالية عالية، فعّلها بعد حصاره داخل المدينة، وظهور سلاح القنّاصة على أسطح المباني، إضافة لكثرة السيارات المفخخة".

كرونولوجيا التحرير
ورغم اعلان "داعش" سيطرته على سرت منذ مطلع عام 2015، إلا أن عملية إخراجه من المدينة لم تبدأ إلا مطلع شهر مايو/أيار الماضي، عندما سيطر على عدد من القرى غربي المدينة، ليصل إلى منطقة السداد (90 كيلومتراً شرق مصراتة)، عندها تنادت كتائب مسلّحة من مصراتة لبدء عملية عسكرية لردع تقدم التنظيم، سرعان ما تحوّلت لعملية ملاحقة لفلوله العائدة إلى سرت.


وفي 12 مايو أعلن المجلس البلدي لمدينة مصراتة، إطلاق ائتلاف عسكري تحت مسمى "البنيان المرصوص"، برعاية المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق لتحرير مدينة سرت. وخلال عشرة أيام تمكنت قوات "البنيان المرصوص"، المكوّنة في أغلبها من مقاتلي مدينة مصراتة ولفيف من المناطق الأخرى، من السيطرة على مناطق بوقرين والوشكة وبوابة الخمسين غرب سرت، بمساعدة طائرات حربية كانت تقلع من الكلية الجوية في مصراتة.

وذكرت القيادة أن "قتلى داعش التي عثرت على جثثهم بهذه المناطق، هم من جنسيات تونسية وتشادية وصومالية، إلى جانب ليبيين". وبعدها، بدءاً من 20 مايو/أيار، تمكنت "البنيان المرصوص" من تضييق الحصار على المدينة، بفتح جبهة للقتال من ناحية الجنوب، بعد سيطرتها على منطقة زمزم، جنوب غربي سرت، وتمكنت من قطع خطوط الإمداد التي تصل إلى التنظيم من ناحية بني وليد ومن مناطق الجنوب.

وفي الثالث من يونيو/حزيران الماضي، وصل القتال إلى مناطق بوهادي وقاعدة القرضابية جنوب سرت، ثم اتسعت المعارك نحو المحور الغربي في منطقة الغربيات، لتبدأ مرحلة جديدة من القتال بتضييق الخناق على التنظيم داخل الحدود الإدارية للمدينة.

وفي خطوة مفاجئة أربكت صفوف "داعش"، تمكنت "البنيان المرصوص" من السيطرة على ميناء المدينة في 10 يونيو/حزيران، لتقطع خطوط الإمداد والتواصل عبر البحر، بالتوازي مع بدء عملية جوية كثيفة على مقرات التنظيم الرئيسية في قاعة واغادوغو، ومجمّع الجامعة وفندق المهاري وغيرها. ثم في منتصف شهر يونيو/حزيران، أعلنت "البنيان المرصوص"، أن "داعش محاصر في رقعة جغرافية لا تتجاوز الـ20 كيلومتراً، بعد السيطرة على قصور الضيافة الرئاسية، وسقوط المئات من عناصره في منطقة البغلة، جنوب سرت، وانسحاب الباقين إلى عمق معاقل التنظيم بالمدينة". ومع مطلع شهر يوليو/تموز الماضي، تمّت السيطرة على منطقة 700 وجزيرة الطويلة ومركز الأبحاث، ثم دخلت الحرب مرحلة جديدة في الشهر نفسه، بانتقالها إلى حرب شوارع، كبّدت "البينان المرصوص" خسائر كبيرة في صفوفها، لا سيما أن معظم مقاتليها من المدنيين غير المدربين.


ومع نهاية شهر يوليو/تموز، كانت "البنيان المرصوص" قد تحوّلت إلى استراتيجية الاعتماد على القصف الجوي، فكثّفت من ضرباتها الجوية على مقرات الجامعة وقاعات واغادوغو ومحيطها، وضيّقت من خناق الحصار بقطع طرق الإمداد الغذائي وخطوط الكهرباء. ومع مطلع شهر أغسطس/آب الماضي، بات واضحاً أن خسائر "البنيان المرصوص" إلى تزايد، مع ارتفاع حصيلة قتلاه إلى 350 مقاتلاً، وسقوط 2000 جريح، مما دفع قادة العملية إلى الطلب من المجلس الرئاسي تأمين دعم جوي دولي لمساندة معاركها داخل الأحياء الضيقة، الأمر الذي تحقق بغارات لسلاح الجو الأميركي. وسمح ذلك، بسيطرة "البنيان المرصوص" على عدد من المقرات الحكومية في سرت، كمجمّع قاعات واغادوغو، المعقل الرئيس لـ"داعش"، بالإضافة لمقرّ إذاعته ومستشفى ابن سيناء المقر الصحي الرئيسي للتنظيم أيضاً. وانتقل القتال خلال نهاية هذا الشهر إلى الأحياء السكنية (الأولى والثانية والثالثة)، التي سقطت تباعاً في أغسطس/آب، ثم سبتمبر/أيلول الماضي، إثر معارك عنيفة، ازدادت فيها وتيرة العمليات الانتحارية التي شاركت فيها نساء من "داعش" بشكل كبير، كما شارك انتحاريون يقودون دراجات نارية مفخخة.

وشكّل سقوط مسجد في الحي السكني الثالث، الذي أطلق عليه "داعش" تسمية "مسجد أبو مصعب الزرقاوي"، ضربة كبيرة للتنظيم، لأن المسجد كان مركزاً دعوياً مهماً للتجنيد ورفع معنويات المقاتلين، في ظلّ مشاركة زعماء التنظيم بالمدينة الصلوات في هذا المسجد.

ومع نهاية شهر سبتمبر/أيلول، ذكرت "البنيان المرصوص"، أن "وجود التنظيم انحسر في حي الجيزة البحرية، في أقصى شمال المدينة، وبدأ يعاني من الجوع والحصار المعنوي، مما قد يدفع عناصره، على الإقدام على عملية انتحار جماعي من دون أن يستسلم". وبين أكتوبر/تشرين الأول الماضي والشهر الحالي، تتالت تصريحات مسؤولي "البينان المرصوص" عن وجود مدنيين محاصرين داخل الحي، يتخذهم داعش دروعاً بشرية"، وأن "عملية اقتحام الحي ستتمّ بشكل جزئي، حفاظاً على سلامة أرواح المدنيين".

وهو ما دفع "البنيان المرصوص" على العمل بكامل قوتها على خطين متوازيين؛ ففيما واصلت تقدمها البطيء داخل الجيزة، كانت قوات أخرى تعمل بشكل كثيف في انتزاع وتفكيك المفخخات ومزارع الألغام بالأحياء المحررة. لكن الدمار وصل إلى مستويات كبيرة في الأحياء الأخيرة، لا سيما مع كثافة القصف الجوي والمدفعي واستغلال "داعش" لركام المباني للاختباء تحتها". وخلال الشهر الماضي سيطرت "البنيان المرصوص" على حي الجيزة، المكوّن من 650 مسكناً على مراحل، وأعلنت عن تمكنها من تحرير مدنيين، أغلبهم نساء وأطفال، تبيّن لاحقاً أنهم أسر ما تبقى من مقاتلي التنظيم داخل الحي الأخير".

كما عمل "داعش" على تصفية بعض مقاتليه، ممن كان يرغب في الاستسلام، كما قامت بعض النساء بعمليات انتحارية في صفوف الأسر، التي كانت تفرّ من داخل الحي، لمنعها من النجاة. غير أن خطط "البنيان المرصوص" التي قامت على تضييق خناق الحصار والتقدم البطيء لإجبار التنظيم على الانهيار من الداخل، حسمت المعركة يوم الإثنين، في حي الجيزة.