لماذا صوّت التونسيون لمتناقضين في الانتخابات الرئاسية؟

لماذا صوّت التونسيون لمتناقضين في الانتخابات الرئاسية؟

22 سبتمبر 2019
يحاول الباحثون تفسير نتائج الانتخابات (الشاذلي بن إبراهيم/Getty)
+ الخط -
لا تزال تداعيات أحداث الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التونسية تلقي بثقلها على المتابعين والباحثين، ليس لكونها نتيجة سياسية مهمة ستؤثر في المسار التونسي فحسب، وإنما لأنها جاءت أيضاً محمّلة بديناميكية اجتماعية وتحولات عميقة طرأت على هذه المرحلة من تاريخ البلاد، وأفرزت خلاصات مهمة على نسق الثورة التونسية، لما يمكن أن يحدث تباعاً في تجارب أخرى.


ويستدعي محللون أدوات ومقاربات اجتماعية واجتماعية -اقتصادية وثقافية وجهوية وفئوية وسياسية لمحاولة فهم ما الذي حرّك التونسيين وقاد إلى "تحطيم" منظومة الحكم والمعارضة، وأدت في النهاية إلى اختيار قيس سعيد ونبيل القروي، إذا لم تنجح طعون منافسيهم.

السؤال الذي يُطرح اليوم يتمحور حول سبب اختيار التونسيين نقيضين للمواجهة المقبلة؟ فقد صوت جزء من التونسيين لسعيّد بما يجسده لدى البعض من صورة النقاوة السياسية والتعفف ونظافة اليد، بينما يقبع منافسه القروي في السجن بتهم التهرب الضريبي وتبييض الأموال. مع العلم أن  الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري الـ"هايكا"، وافقت على طلب تمكين القروي من تسجيل حصص التعبير المباشر والمشاركة في المناظرات المبرمجة في الدور الثاني، وذلك إما بالحضور في استوديوهات مؤسسة التلفزة التونسية المركزية، أو التسجيل، أو البث المباشر من المؤسسة السجنية التي يقيم بها.

وفي حين اختار جزء كبير من الجامعيين والشباب سعيّد، فقد صوت أميون كثيرون وكبار السن للقروي. ويمكن الاسترسال في عد قائمة المتناقضات التي تفرّق الرجلين، بينما اختارهما التونسيون لأسباب يعرفونها، والتي شرع الباحثون في محاولة تفسيرها وفك رموزها. ويؤكد القروي، في تصريح نسب له من داخل سجنه، أنه "على غرار انتخابات 2014، ستكون المعركة حاسمة بين محور إسلامي محافظ يمثله قيس سعيّد والنهضة من جهة، ومحور حداثي اجتماعي ليبيرالي أمثله أنا، وحزب قلب تونس من جهة أخرى، وعلى كل ناخب أن يختار معسكره".

ويوضح المختص في علم الاجتماع، محمد الجويلي، في حديث مع "العربي الجديد" أن الفائزين في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية سعيّد والقروي يمثلان شخصيتين متضادتين، معتبراً أن التونسيين صوتوا لمتضادين لأنهما الوحيدان من بين الـ26 مرشحاً اللذين قدما خطاباً وأجوبة مختلفة عن باقي المرشحين. ويقول الجويلي، لـ"العربي الجديد"، إن "سعيّد تميز بوعد الانتقال من دولة القانون إلى مجتمع القانون، وذلك عبر التقليل من سلطة الدولة وابتداع أشكال تنظيمية جديدة في المجتمع تقوم على سلطة الحكم المحلي". أما تفرد القروي، المضاد تماماً لسعيد، فتمثل بحسب الجويلي، بالإجابات المباشرة عن مشاكل الفقر والتهميش وتقديم حلول عملية، بالرغم من كل ما يحوم حوله من شبهات فساد وإيداعه السجن.
ويعتبر الجويلي أن "خروج المتنافسَيْن عن السرب أدى إلى فوز شخصين متضادين تماماً، في الشخصية والبرامج، وحتى تصنيف المجتمع لهما". ويشير إلى أن "القطيعة مع المنظومة السياسية السائدة بخطابها وممارساتها وشخصياتها، والتي أثبتت منذ أكثر من ثماني سنوات عدم قدرتها على أن تكون في مستوى التطلعات، دفعت الناخبين إلى البحث عن قيم إنسانية فقدت في المرحلة الأخيرة، وهي قيم التواضع والبساطة والجدية وتحمل المسؤولية والابتعاد عن السلوك الانتهازي في مظاهره المتعددة، بالإضافة إلى نوع من التعفف والنقاوة الثورية التي يبحث عنها العديد من الذين ما زالوا يؤمنون بالثورة، مع شعور بالقهر".

من جهته، يعتبر المرشح للرئاسة، الذي احتل المرتبة السابعة، لطفي المرايحي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "نتيجة الانتخابات حتمية لسياسات فاشلة ولتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية التي عمقت الوضع. فالفئات التي صوتت لقيس سعيّد هي التي علقت آمالها على الثورة ولم تتحقق أحلامها، ومن بينها الشباب العاطل عن العمل والطبقات الاجتماعية، والمثقفون. أما الشرائح الاجتماعية التي تعمقت أزمتها، ولم تجد من يهتم بها، فصوتت للقروي، وبالتالي تمت معاقبة من حكموا وتداولوا على السلطة منذ 2011". ويضيف أن "المشهد السياسي تغير بعد انتخابات 2019، وسيكون مختلفاً عن الذي عشناه سابقاً، وكان جزء منه امتداداً لما قبل 2011 من حيث بروز القوى التي تنتمي للتجمع وحزب النهضة، الذي كان ملاحقاً قبل نظام (الرئيس المخلوع زين العابدين) بن علي، وأيضاً من أحزاب اليسار والقومية. لكن هذا المشهد انتهى بعد الانتخابات الرئاسية، التي أدت إلى بروز قوى جديدة، ستشكل المشهد السياسي" مستقبلاً.



ويوضح المرايحي أنّ "التونسي لم يهتم بالبرامج بقدر ما اهتم بالرمزية والأشخاص الذين رأى فيهم منقذين. فنبيل القروي تم التصويت له على أساس أنه نصير الفقراء واعتنى بهم في ظل لامبالاة الحكام. ومن اقترع لسعيّد فقد صوت للأحلام والشعارات التي لم تتحقق". ويشير إلى أن "كل انتخابات فيها خاسرون ورابحون، والخاسرون عديدون في الانتخابات الحالية، ولكن ما حصل مثل زلزالاً في المشهد السياسي وقلب الموازين، لأن الشخصيات والأحزاب التي كانت تستعد لكي تكون في الأدوار الأولى وجدت نفسها مقصية، وهذه التداعيات ستؤثر حتى على الانتخابات التشريعية".

ويقول القيادي في حراك تونس الإرادة، مدير حملة المنصف المرزوقي، عماد الدايمي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "النتائج تتطلب تحليلاً عميقاً للحظة السياسية الراهنة وحالة الناخبين، ولكن الواضح أن النتائج تنم عن رفض للمشهد السياسي الراهن والتصويت الذي حصل عقاب لمنظومة الحكم"، مضيفاً أن "الوضع يتطلب الكثير من التواضع أمام حكم الشعب". ويؤكد أن "التصويت للقروي، الذي احتل الترتيب الثاني بنحو 15 في المائة، يعني أن هذا الشخص نجح في طرح توجهاته للتونسيين، ودخل من الباب الذي يهمهم، وهو الوضع الاجتماعي والمالي، ونجح في استقطاب فئة من التونسيين بالاعتماد على الإشهار المتواصل والعمل الخيري والإعلام ووسائل غير قانونية. لكن بقطع النظر عن قانونية ما فعله أو عدمها، فإن الناس كانوا متعطشين لهذا النموذج ولم يكن في المشهد السياسي من طرح عليهم هذا الجانب، واهتم بفاقدي السند وبالفئات الضعيفة. وبالتالي هو دخل من الباب الذي يهم التونسيين، وفي هذه الانتخابات تغلبت الأولويات الاجتماعية على الأطروحات السياسية".

من جهته، يعتبر القيادي في حركة النهضة عبد الحميد الجلاصي أنّ "فوز سعيّد والقروي يعني فشل المنظومة المقابلة، وهو تصويت عقابي لمنظومة حزبية فشلت وركّزت على القضايا النخبوية والصراع وغرقت في موضوع الديمقراطية دون الاهتمام بالقضايا المبدئية والاجتماعية". ويوضح في حديث مع "العربي الجديد"، أن "أحد المرشحين يمثل الاستحقاق الاجتماعي، والثاني يمثل الاستحقاق الثوري، وأنّ الجهات عاقبت المنظومة الحزبية، وقد حان الوقت لكي تملك الشجاعة لاستخلاص الدروس العميقة للحصول على منظومة مناسبة لتونس الثورة". ويلفت إلى أن "ما حصل في 15 سبتمبر/أيلول الحالي فاتحة لنفس جديد في الثورة، خصوصاً إذا فهم الرئيس الجديد الرسالة جيداً. لكن يجب أيضاً أن يفهم الفاعلون السياسيون الرسالة، ويغيروا الخطاب وطرق التواصل والعمل، ووقتها يمكن أن يصبح ما حصل في الانتخابات نفساً جديداً في الثورة التونسية". ويشير إلى أن هناك "مخاوف أن ندخل في نوع من المتاهة أو الغموض والهشاشة، إذا تبيّن أن الشعارات المرفوعة في الرئاسية زائفة أو إذا أفرزت الانتخابات البرلمانية مشهداً مشتتاً وفوضوياً". وأعرب عن أمله أن "تكون الانتخابات صدمة وحافزاً للشوط الثاني من الثورة التونسية، والى إصلاحات وثورة أعمق داخل الأحزاب والنخب. فما حدث هز الأحزاب بالفعل، لكنه امتد أيضاً إلى النخبة التي تتخاصم على قضايا ليست الأولى في جدول اهتمام التونسيين. فوجود نخبة، سياسية أو مدنية أو حزبية، بمعزل عن شعبها لا يمكن أن تحكم، وفي الديمقراطية يكون عقاب الشعب شديداً".