سجن نشطاء الريف المغربي: مخاوف "سنوات الرصاص" وآمال العفو

سجن نشطاء الريف المغربي: مخاوف "سنوات الرصاص" وآمال العفو

28 يونيو 2018
انتشرت قوات الأمن بكثافة في الحسيمة (فاضل سنا/فرانس برس)
+ الخط -

بمزيج من الصدمة والدهشة والغضب، تلقّى كثيرون في المغرب أحكام السجن بعشرات السنوات التي نطقت بها محكمة الجنايات الابتدائية بالدار البيضاء في حق عدد من معتقلي "حراك الريف" الذي دام أشهراً في أقصى شمال المملكة، احتجاجاً على تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.

ونطقت المحكمة، بعد جلسات ماراتونية تجاوزت 84 جلسة وامتدت نحو سنة، على العديد من نشطاء "حراك الريف"، الذي اندلع عقب مقتل بائع للسمك في شاحنة قمامة، بالحكم 20 عاماً نافذة على "زعيم الحراك"، ناصر الزفزافي، ومثلها تم الحكم على نبيل أحمجيق، الملقب بـ"دينامو الاحتجاجات"، ونشطاء آخرين. وتوزعت بقية أحكام السجن على معتقلي "احتجاجات الحسيمة" بين سنة و15 سنة، إذ حُكم على الناشط البارز، محمد جلول، بعشر سنوات، وعلى ربيع الأبلق بخمس سنوات، فيما لم يصدر أي حكم بالبراءة في حق المعتقلين. وبعد النطق بالحكم بهذا الكم من سنوات السجن في حق نشطاء الريف، انطلقت ردود الفعل العاصفة، تندد أغلبها بقساوة الأحكام بحقهم، فيما أبدى كثيرون خشيتهم من أن يعود الاحتقان من جديد إلى شوارع الحسيمة في الريف المغربي، في الوقت الذي أطلق في مراقبون شرارة الأمل في عفو ملكي مرتقب، أو على الأقل خفض الأحكام في مرحلة الاستئناف من المحاكمة.

ووصف مدير المركز المغربي لحقوق الإنسان، عبد الإله الخضري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، الأحكام بكونها "قاسية جداً"، رغم أنها كانت متوقعة بالنظر إلى مظاهر التعبئة والشحن والتحريض التي رافقت المحاكمة، والتهم الثقيلة التي وجهت إلى نشطاء الريف من لدن النيابة العامة. وأضاف "نحن أمام مواجهة واضحة بين إرادة شعبية تواقة إلى إصلاح حقيقي عبر محاربة الفساد والاستبداد، وقوة قاهرة لا تؤمن بوجود الفساد، بل تعتبر من يدعي وجوده عدواً وخصماً للدولة، وتحاول البحث عن خيط مفترض بينه وبين جهات خارجية، لتبرير الانتقام منه". وتابع أن "المغاربة معنيون جميعاً بحماية الوطن من القلاقل التي قد تذهب بأمنه وسلمه الاجتماعيين، لكن لا يمكن التنازل لفائدة الظلم والفساد، ودون تحقيق مقومات العدالة الاجتماعية. ولا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية دون محاربة الفساد والاستبداد اللذين يوفران غطاء سميكاً لجيوب مقاومة مبادرات الإصلاح". واعتبر الخضري أن "ناصر الزفزافي ومحمد جلول ونبيل أحمجيق ورفاقهم بلغوا رسالتهم، التي تعكس سخط وهاجس شرائح عريضة من الشعب المغربي قابعة تحت براثن التهميش، وقد قدموا ضريبة باهظة من حريتهم"، معتبراً أن "رميهم في غياهب السجون بهذه المدد يجعل منهم أيقونة النضال الشريف والمقدام في أذهان الأجيال الجديدة".



وقال الخضري إنه "بهذه الأحكام السجنية يؤسس المغرب لسنوات رصاص جديدة، لكن بصيغ انتهاكات حقوقية نوعية وذكية، تمحي منجزات مبادرات هيئة الإنصاف والمصالحة، لتصنع أخرى أكثر قتامة وخطورة على مستقبل المغرب"، محذراً من ازدياد منسوب الاحتقان في صفوف المواطنين". وأبدى الحقوقي أمله في أن يصحح القضاء الاستئنافي ما وصفه بالأحكام الجائرة ضد معتقلي الريف، "بما يمكن من إنصاف نشطاء حراك الحسيمة، لأننا بحاجة في بلادنا إلى ترميم جسور الثقة بين الدولة والمواطن المظلوم في عيشه وكرامته، بدل تعميق الشروخ القائمة" على حدّ تعبيره.

من جهته، شدد رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، محمد الهايج، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، على أن الأحكام القاسية ضد نشطاء الريف ستزيد من درجات الاحتقان، خصوصاً في منطقة الريف المهمشة، وأن "جرح عشرات الأسر المكلومة لن يندمل بسهولة بسبب هذه المدد السجنية الطويلة". ورأى أن "الأحكام الصادرة حولت شباباً من خيرة أبناء الوطن، طالبوا بالحق في عيش كريم ورغيف خبز بدون كرامة مهدورة، وبتنمية مدينتهم ومنطقتهم، إلى مجرمين خطرين يقبعون عشرات السنوات في الزنازين"، متوقعاً أن ينطلق "الحراك" من جديد للمطالبة بإلغاء تلك الأحكام. واعتبر أن السلم الاجتماعي المنشود، خصوصاً في منطقة الريف التي عرفت تاريخياً بكونها خاضت خصومات سياسية مع الدولة منذ فترة المقاوم محمد عبد الكريم الخطابي، لن يتأتّى دون إطلاق سراح المعتقلين، ليكون ذلك عربوناً على "يد المصالحة" بين السلطات وأبناء الريف.
ومن جهتها اعتبرت "فدرالية اليسار"، المشكلة من أحزاب يسارية معارضة للحكومة، أن "الأحكام الصادرة في حق الزفزافي ورفاقه تعيد المغرب إلى سنوات الجمر والرصاص، وتمس باستقرار البلاد من خلال تغذية الشعور بالحكرة (أي الغبن) لدى الشعب المغربي". وشددت على "ضرورة الإفراج الفوري عن كافة المعتقلين على خلفية حراك الريف وباقي الاحتجاجات في البلاد"، داعية "الحكومة إلى الاستجابة الفورية للمطالب التي خرج من أجلها الشباب المحتج"، معتبرة أن "ملاحقة المناضلين بتهم واهية أمام القضاء من شأنها أن تعمق الأزمة بين الدولة والمواطن".

واستفاقت مدينة الحسيمة على وقع الأحكام الصادرة في حق العديد من أبنائها، بعودة الاحتجاجات، حيث طالب المحتجون بإطلاق سراح المعتقلين من دون قيد أو شرط، حتى تهدأ النفوس ويخمد الاحتقان. ومقابل رفع المحتجين لشعارات "عاش الريف... الموت ولا المذلة" الذي اشتهر برفعه رفاق الزفزافي، انتشرت قوات الأمن بشكل كبير في أغلب أحياء مدينة الحسيمة، تحسباً لأية احتجاجات جديدة كرد فعل على الأحكام الصادرة في حق عدد من أبناء الحسيمة. والأحكام التي وصفت بكونها قاسية سوغها متابعون لملف نشطاء الريف بأن الدولة ترغب في تحذير الحركات الاحتجاجية "المنفلتة" التي لا تخضع للقانون في الاحتجاج وإعلان الإضرابات الاجتماعية، فضلاً عن خشيتها من وقوف جهات أجنبية وراء بعض نشطاء الريف لتحقيق غايات سياسية تضر بالأمن الداخلي للبلاد. وسبق لأحزاب الأغلبية الحكومية أن أصدرت بياناً "نارياً" في 2017، عقب الاحتجاجات الكثيفة التي عرفتها منطقة الريف، واتهمت عدداً من المحتجين بأنهم يتلقون تعليمات ودعماً من "جهات انفصالية"، وحذرت من المس بالوحدة الترابية والترويج لأفكار هدامة تبث الفتنة في المنطقة، وهو البلاغ الذي قدم بشأنه رئيس الحكومة شبه اعتذار، قبل أن تعود لهجة الحكومة إلى نوع من الاعتدال حيال الوضع في الريف.

ويقول مراقبون إن الأحكام الصادرة بعشرات السنوات في حق الزفزافي ورفاقه ليست سوى "تحذير مبطن" لهذا النوع من الاحتجاجات التي عرفتها منطقة الريف، بالنظر إلى خصوصية هذه المنطقة وحساسية التعاطي معها، لا سيما أنها كانت موضوع انتفاضات سابقة خلال سنوات مضت، أخمدتها السلطات بالقوة. وأمام توزيع الأحكام بالسجن على معتقلي الريف، انقسم متابعون حيال مصير الملف والنشطاء المعتقلين إلى ثلاثة فرق، الأول يرى أن الأحكام الصادرة تبين رغبة الدولة في إغلاق هذا الملف الذي استنزف جهدها، سياسياً وحقوقياً في الداخل والخارج أيضاً، وبالتالي لن يكون هناك تعديل أو تخفيف للأحكام في منظور الأيام. والفريق الثاني يتمسك بأمل أن تصدر محكمة الاستئناف أحكاماً تقلل من مدة سجن زعماء "حراك الريف"، وهو ما عبر عنه صراحة وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، مصطفى الرميد، في تصريحات صحافية، أعرب فيها عن أمله في أن تكون أحكام قضاء الاستئناف أكثر عدالة من سابقتها. وقال الرميد إنه ستعاد مناقشة القضية أمام غرفة الجنايات الاستئنافية التي تتكوّن من خمسة قضاة، يفترض فيهم الكفاءة والتجربة التي تتجاوز ما لدى زملائهم في المرحلة الابتدائية، مبدياً أمله في أن "تصدر أحكام أكثر إنصافاً تكرس الثقة بالقضاء وتؤسس لمصالحة جديدة مع سكان المنطقة" على حد قوله. أما الفريق الثالث، الذي يتضمن حقوقيين وسياسيين بالأساس، فيرى أن هناك إمكانية للخروج من هذا "المأزق" والاحتقان الذي يرتفع لدى سكان الريف، خصوصاً بعد النطق بالأحكام، من خلال إصدار عفو ملكي في حق المعتقلين في مناسبات دينية مقبلة، كما دأب على ذلك العاهل المغربي، محمد السادس، من أجل إرساء مصالحة وصفحة جديدة بين سكان الريف والدولة.