إيران: "فاتف" تشعل صراعاً بين الحكومة والمحافظين

إيران: "فاتف" تشعل صراعاً بين الحكومة والمحافظين

30 أكتوبر 2019
يتواصل جدل "فاتف" بإيران منذ عامين (عطا كيناري/فرانس برس)
+ الخط -
يشهد التوتر بين إيران والولايات المتحدة هذه الأيام هدوءاً نسبياً، لكن تداعياته لا تزال مستمرة، خصوصاً من الناحية الاقتصادية. فهذا الهدوء، الذي يعود إلى حدّ كبير لانهماك الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمشاكله الداخلية من جهة، ولمستجدات إقليمية هامة سرقت الضوء إعلامياً من الملف الإيراني من جهة ثانية، لم ينسحب على الجدل الدائر في الداخل الإيراني، بين الحكومة المدعومة من الإصلاحيين والمعتدلين، وبين المحافظين والمؤسسات السيادية الخاضعة لسيطرتهم، حول طريقة إدارة المرحلة الراهنة، على ضوء الضغوط والعقوبات المفروضة من واشنطن.

وتصاعدت أخيراً وتيرة الخلافات السياسية بين الطرفين، الإصلاحي والمحافظ، ما دفع الرئيس الإيراني حسن روحاني، إلى المطالبة بتنظيم الاستفتاء لحسم ثنائية "التعامل البنّاء أو المواجهة المستمرة" في العلاقات الخارجية، في إشارة إلى العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة، ما اعتبره بعض المحافظين دعوةً إلى الاستفتاء بشأن التفاوض مع واشنطن.


ويبرز من بين نقاط الخلاف المحتدمة بين الطرفين، موقفهما المتباعد من الانضمام إلى مجموعة العمل المالي، المعروفة اختصاراً باسم "فاتف"، وهي هيئة رقابية دولية مقرّها العاصمة الفرنسية باريس، ويهدف عملها لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. انضمام طهران لـ"فاتف" تواصل الجدل الواسع حوله داخل البلاد طوال العامين الأخيرين، قبل أن يتصاعد أخيراً بشأن المصادقة من عدمها على اتفاقيتين دوليتين مرتبطتين بالمجموعة الدولية، وذلك بعدما أمهلت "فاتف" (Financial Action Task Force) إيران أشهراً قليلة للانضمام إليهما. وتنتهي المهلة الممنوحة في فبراير/ شباط المقبل، وهي الأخيرة المُقدمة إلى إيران، بعد مهل عدة استنفدت جميعها خلال السنوات الماضية بعدما قامت المجموعة في العام 2016 بتعليق وضع إيران على قائمتها السوداء مع بدء تنفيذ الاتفاق النووي المبرم عام 2015، إذ كان بقاؤها في هذه القائمة يحرمها من استخدام النظام المالي الدولي.

وحذرت "فاتف"، يوم الجمعة الماضي، في بيانٍ، من أنه "إذا لم تقر إيران قبل فبراير/ شباط 2020، اتفاقية باليرمو (لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود)، واتفاقية سي إف تي لمكافحة تمويل الإرهاب (CFT) بما يتماشى مع معايير فاتف"، فإن المنظمة "ستلغي بالكامل تعليق تدابير مضادة، وتدعو أعضاءها وتحث جميع الولايات القضائية على تطبيق تدابير مضادة فعالة".

وتشمل اتفاقية "سي إف تي" (الانضمام إلى معاهدة مكافحة تمويل الإرهاب) البحث والتحرّي والردع، ومنع مصادر التمويل للأنشطة التي تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية أو دينية أو أيديولوجية، من خلال العنف والتهديد بالعنف ضد المدنيين.

وكان مجلس الشورى الإيراني (البرلمان)، قد أقرّ الاتفاقيتين العام الماضي، لكنه عاد واحتكم إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام بشأن الخلاف الدائر حول المشروعين، بعد معارضة مجلس صيانة الدستور. لكن المجمع الذي يشكل المحافظون غالبية أعضائه البالغ عددهم 44 شخصاً، لم يبد رأيه النهائي حول المسألة سواء لصالح الحكومة والبرلمان، أو لصالح مجلس صيانة الدستور، على الرغم من عقده اجتماعات عدة في هذا الشأن، مع ميله إلى رفض الانخراط في هذه الاتفاقيات، وهو ما أظهرته التصريحات العديدة التي صدرت عن أعضاء بارزين فيه.

وينصّ الدستور الإيراني على أنه في حال فشل مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور المشرف على أعمال الأول وعلى القوانين الصادرة عنه، في حلّ القضايا العالقة والخلافات الدائرة بينهما، تُحال هذه المسائل إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام، بوصفها الهيئة الاستشارية العليا في البلاد للفصل بين المجلسين.

ويأتي تصاعد الخلاف بين القوى السياسية الإيرانية بشأن الانضمام إلى مجموعة "فاتف"، بعدما ذهبت حكومة الرئيس حسن روحاني خلال السنوات الأخيرة باتجاه إصلاحات مالية عملاً بمقررات المجموعة، فعدّلت قانون الضرائب، كما قدمت مشروعاً للبرلمان يصبح بموجبه لإيران قانونٌ خاص بـ"مكافحة الدعم المالي للإرهاب"، وذلك طبعاً بحسب تعريف الجمهورية الإيرانية للإرهاب وفق معايير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، كما ينصّ عليه القانون.

إلا أن المشروعين المرتبطين باتفاقيتي "باليرمو" و"سي إف تي"، ظلّا عالقين، ورهينة ما قد يخرج عن الخلاف والجدل العميق والمتواصل بين القوى السياسية ومؤسسات الحكم حول الانضمام إليهما. وترى الحكومة الإيرانية في إقرار المشروعين ضرورة لإخراج البلاد من قائمة "فاتف" السوداء، وعدم تعرضها لعقوبات إضافية من قبل المجموعة الدولية في ظلّ عودة العقوبات الأميركية، وكذلك تسهيل تعاملات إيران المالية مع العالم. وتشير حكومة روحاني إلى أنه في حال لم تنضم إلى الاتفاقيتين، وقامت "فاتف" بتفعيل تدابيرها المضادة بعد فبراير المقبل، فلن يعود بالإمكان العمل حتى مع المصارف في الدول الجارة، مثل العراق.

ويوم الأربعاء الماضي، شنّ الرئيس الإيراني هجوماً حاداً على معارضيه، خلال اجتماع لحكومته، متسائلاً عن الأسباب التي "تدفع البعض لعرقلة أربع لوائح أقرتها الحكومة والبرلمان"، مشدداً على "ضرورة عدم السماح لأن يلصقوا بنا تهمة غسل الأموال في نظامنا المصرفي".

وذهب روحاني بعيداً في مهاجمة المعترضين على الانضمام للاتفاقيتين، ليطلق تهديداً بأنه سيعمد مستقبلاً للكشف عن الجهة التي تعطل الدولة، قبل أن يُصّعد نائبه إسحاق جهانغيري الجدل بقوله إنه "على ضوء إقرار لوائح باليرمو وسي إف تي في اجتماع رؤساء السلطات الثلاث في البلاد وموافقة قائد الثورة (المرشد علي خامنئي) على ذلك، من الأفضل أن يصادق مجمع تشخيص مصلحة النظام سريعاً عليها". هذا التصريح جلب لجهانغيري هجوماً حاداً من المحافظين المعارضين، وصل إلى حدّ مطالبة النائب المحافظ في البرلمان، والمتحدث باسم لجنته القضائية، حسن نوروزي، أول من أمس الإثنين، بمحاكمته، متهماً إياه بـ"نشر الأكاذيب" ونسبها إلى المرشد الإيراني.

بدوره، سارع مجمع تشخيص مصلحة النظام للرد على جهانغيري في بيان، مؤكداً أن خامنئي لم يصدر أي تصريح أو رسالة للموافقة على إقرار لوائح "باليرمو" و"سي إف تي"، داعياً المسؤولين الحكوميين إلى "مراعاة الأمانة في النقل عن قائد الثورة".

ويسود قلقٌ على ضفة المحافظين المعارضين للانضمام إلى اتفاقيتي "فاتف"، من أن يؤدي ذلك إلى انكشاف المنافذ والطرق التي تلتف إيران من خلالها على العقوبات الأميركية وإغلاقها، بالإضافة إلى أن هذا الانخراط يجعل النظام المالي الإيراني مكشوفاً بالكامل أمام "الأعداء" ويجلب مزيداً من المشاكل للبلاد، من دون أن يحلّ القائمة منها، لأن النظام المالي والمصرفي الإيراني خاضع بقوة للعقوبات الأميركية، بحسب قولهم.

كما ينظر المعارضون إلى الأمر باعتباره أداةً لاستهداف الدعم الإيراني لحزب الله اللبناني وحركات المقاومة الفلسطينية، باعتبار أن هذه الجهات موضوعة على قائمة الإرهاب في الولايات المتحدة ودول أوروبية.

أما المؤيدون للانضمام إلى "فاتف"، فلهم رأيٌ آخر. واعتبر المتحدث باسم الحكومة علي ربيعي، يوم الأربعاء الماضي، أن عدم الانخراط في هذه المجموعة وإلغاء تعليق إيران في قائمتها السوداء "سيزيد من الرقابة الاستخبارية الأجنبية على البلاد"، مشدداً على أنه "لا ينبغي تقديم ذرائع للأجانب".

كما يشير الموافقون على عملية الانضمام إلى أن هذه الخطوة لا تستهدف دعم إيران لحلفائها في المنطقة، معللين ذلك بأن القائمة المعتمدة لدى "فاتف" عن الحركات الإرهابية، هي تلك التي تعتمدها الأمم المتحدة، والتي لا تتضمن "حزب الله" والحركات الفلسطينية وغيرها، بل تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة" و"القاعدة".

باختصار، يعود الجدل حول الانضمام إلى اتفاقيتي "فاتف" من عدمه إلى الصراع بين المدرستين في السياسة الخارجية الإيرانية، الأولى تقودها الحكومة الإيرانية اليوم، وهي ترى في "التعامل البنّاء" والانفتاح على الغرب والانخراط في المؤسسات الدولية سبيلاً لحل المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البلاد على خلفية العقوبات الأميركية. أما المدرسة الثانية فيقودها المحافظون ومؤسسات الحكم المحافظة في البلاد، الذين يعتبرون أن حلّ الأزمة هو داخلي، وهم لا يخفون تخوفهم من أن مشاريع كهذه تقوض النفوذ الإقليمي لإيران.