يوم برفقة "السترات الصفراء" في الجنوب الفرنسي

يوم برفقة "السترات الصفراء" في الجنوب الفرنسي

14 ديسمبر 2018
حوّل المعتصمون في لابارك المعبر إلى مكان احتفالي(العربي الجديد)
+ الخط -
أربعة أسابيع مرت على انطلاق الحركة الاحتجاجية التي أطلقتها "السترات الصفراء" في فرنسا، ولا يبدو في الأفق ما يدل على أنها اقتربت من نهايتها، على الرغم من الوعود التي أطلقتها السلطات الفرنسية، ولا سيما الرئيس إيمانويل ماكرون في خطابه يوم الإثنين الماضي. لكن ذلك لم يقنع العديد من هؤلاء المحتجين، فاستمروا في الدعوة للتعبئة، ودعوا إلى "فصل خامس" من التظاهرات يوم غد السبت، ليكون خامس سبت على التوالي يشهد تحركات على المستوى الوطني منذ انطلاق الحركة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
لكن على الرغم من مرور ما يقارب الشهر على انطلاق هذا الحراك، لا تزال تساؤلات كبيرة تُطرح حول كيفية تشكّله، وهل وصل إلى شكله النهائي، إن كان لجهة القوى المنضوية فيه، أو لمطالبه التي لا يبدو أنها تبلورت بشكل واضح بعد، وبالتالي ما هو المسار الذي سيسلكه في الأيام والأشهر المقبلة؟

انطلاق الحراك

اندلعت احتجاجات "السترات الصفراء" على خلفية قرار الحكومة زيادة الضرائب على أسعار المحروقات اعتباراً من شهر يناير/كانون الثاني 2019. مع بدايتها، ركّزت وسائل الإعلام العالمية، والعربية على وجه الخصوص، على تظاهرات مدينة باريس في الجولتين الثانية (24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي) والثالثة (1 ديسمبر/كانون الأول الحالي)، خصوصاً مع تحوّل الشارع الأعرق والأشهر في العاصمة الفرنسية "شانزليزيه" إلى ساحة مواجهة بين قوات حفظ الأمن والمتظاهرين. وأُتخمت شاشات التلفزة بمشاهد حرق السيارات، وتخريب وسرقة الأملاك العامة، حتى إن العديد من المراسلين تحدثوا عن "حرب" تجتاح عاصمة الأنوار.

وكانت الدعوات الاحتجاجية الأولى انتشرت عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لا سيما صفحات "فيسبوك"، بدءاً من العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2018. وركزت تلك الدعوات على تنظيم احتجاجات هدفها ثني الحكومة عن "سياساتها المجحفة" بحق المواطنين، معتمدة في ذلك على وسائل ضغط متنوعة كقطع الطرقات وتعطيل حركة السير في المحاور الرئيسية في كل مدينة. تضامن مع هذه الحركة سائقو السيارات، فوضعوا السترة الصفراء الموجودة داخل كل سيارة أمام السائق. ولم يقتصر الأمر على أصحاب السيارات الصغيرة، بل بادر سائقو الشاحنات وبعض المواطنين إلى ذلك كإشارة تضامنية مع الحركة الاحتجاجية. كما نشر العديد منهم فيديوهات تعكس احتقانهم وسخطهم من سياسات الحكومة الفرنسية وماكرون. أسفرت الجولة الأولى من التظاهرات في 17 نوفمبر عما يزيد عن ألفي نقطة تجمع على مستوى الدولة.

وكانت الفكرة الأساسية، أو روح مبادرة "السترات الصفراء"، تبلورت حول التظاهر ومحاولة قطع الطرقات على مستوى الجمهورية الفرنسية، إذ تتحرك كل مجموعة وتتظاهر في بلدتها أو مدينتها، وليس حول التركيز على مدينة باريس بشكل حصري. إلا أن انضمام أطراف عديدة لهذه الحركة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومحاولة أحزاب المعارضة استغلال اللحظة الراهنة لتحقيق مكاسب حزبية، بالإضافة إلى غياب قيادة تمثيلية لـ"السترات الصفراء"، كلها أسباب أدت لتبعثر الآراء، وتعدد المبادرات والمطالب والتحركات. ويمكن اليوم التمييز بين شكلين بارزين للاحتجاج ضمن تحركات "السترات الصفراء": الأول، هو الاعتصامات الدائمة على الطرقات والمحاور الرئيسية، والثاني يتمثّل بجولات التظاهر كل يوم سبت؛ إلا أن الحركة الاحتجاجية تتطور وتستوعب يومياً أطرافاً وقوى جديدة، فبدأ طلاب المدارس بالتظاهر وإعلان دعمهم للحركة، وكذلك العديد من النقابات على رأسها نقابات الفلاحين والسائقين.

تجربة لابارك: باقون هنا
يبقى السؤال من هم هؤلاء المواطنون الفرنسيون الذين لبسوا السترات الصفراء وقرروا الاعتصام في الساحات للاحتجاج على سياسات حكومتهم، في ظل الشتاء القارس؟ وكيف ينظّم هؤلاء أنفسهم حتى استطاعوا الصمود والاستمرار في الاعتصام على امتداد ما يقارب الثلاثة أسابيع؟ ما هي دوافعهم ومطالبهم الأساسية؟

في محاولة للإجابة على هذه التساؤلات، زارت "العربي الجديد" نقطة اعتصام لمتظاهرين من "السترات الصفراء" على بُعد حوالي 35 كيلومتراً من مدينة مرسيليا في الجنوب الفرنسي. هؤلاء المحتجون يعتصمون منذ 17 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على الطريق الدولي (A8) في أحد المعابر المدفوعة قرب بلدة صغيرة تدعى لابارك (La Barque)، والتي سُمي المعبر باسمها.
حوّل المعتصمون المعبر إلى مكان احتفالي شبيه بأسواق عيد الميلاد التقليدية. نصبوا شجرة الميلاد وزينوها بقصاصات ورقية كتبوا عليها نسب ارتفاع الأسعار والضرائب المختلفة. أغلقوا القسم الأكبر من المعبر تاركين مجالاً ضيقاً يتيح عبور سيارتين فقط، مع إبقاء معبر مخصص للطوارئ والحالات الإسعافية. هناك صنعوا مائدة مفتوحة للجميع من الألواح الخشبية التي تُستخدم في نقل البضائع، تحتوي على أنواع مختلفة من الأطعمة والمشروبات. كما تنتشر بعض المقاعد حول براميل مشتعلة تخفف عنهم برد الشتاء. وما يزيد من صخب المكان، أبواق السيارات العابرة التي يلوّح سائقوها للمعتصمين في إشارة واضحة للتضامن وللفرح بالمرور بشكل مجاني.


كما تتواجد سيارة للشرطة بشكل دائم على بعد ما يقارب 200 متر، ويقول المعتصمون عن أفراد الشرطة "أصبحوا أصدقاء لنا، يأتون أحياناً لشرب القهوة معنا، ويتفهمون غضبنا"، مضيفين "منذ أسبوعين لم يقع أي حادث هنا، نحاول الحفاظ على سلامة الجميع، هذه مسؤوليتنا". ليلة 29 نوفمبر قامت الشرطة بإخلاء المكان بعد أن وصل بعض الشباب الجدد إلى المعبر وحاولوا إضرام النار بالألواح الخشبية، لكن فجر اليوم التالي عاد المعتصمون سريعاً إلى المكان.

نقاشات محتدمة
في هذه النقطة، يتجّمع مواطنون من شرائح اجتماعية وعمرية مختلفة، بلا ألوان سياسيّة أو نقابيّة علنية. متقاعدون تزيد أعمارهم عن 60 عاماً، وشبان بين 25 و40 عاماً، من أصحاب مهن مختلفة، منهم مستثمرون صغار، أو عاطلون من العمل. كذلك يبرز الحضور النسائي الفاعل، فيما عدد الشبان دون 18 عاماً قليل، بالتوازي مع غياب طلاب الجامعات.
ويُلاحَظ في هذا التجمّع الحيوية والنشاط، حلقات نقاشية عديدة تعقد في كل زاوية وركن.

المحرك الأساسي لهذه النقاشات هم المتقاعدون، كلٌ يتحدث عن تجربته الحياتية وأسباب حضوره إلى المكان، طارحاً آراءه وتطلعاته لهذا التحرك. في خضم هذه النقاشات يقارن أحد المتقاعدين ما يحصل الآن مع موجة الاحتجاجات التي وقعت في عام 1968. برأيه لم يكن ليتراجع الجنرال شارل ديغول لولا قوة الاحتجاجات وإصرار المتظاهرين، قائلاً "نعم سقط العشرات من الضحايا في تلك التظاهرات ولكن لا بد من ثمن للتغيير". يتدخّل رجل آخر مقاطعاً زميله، حاملاً المقارنة إلى مكان أبعد، الثورة الفرنسية عام 1789. يعتبر أن خروج الفرنسيين اليوم ليس فقط احتجاجاً عابراً كرد فعل على رفع ضرائب المحروقات، إنما هو نتيجة تراكم سياسات الحكومات المتعاقبة على امتداد ثلاثين عاماً. ويقول إن الفرنسيين يتحمّلون ويسكتون لفترة طويلة، ومن ثم يأخذون حقهم من حكامهم دفعة واحدة في نهاية المطاف. ويشدد على أن ما يحصل ليست حركة بسيطة، بل احتجاجات على كامل الأراضي الفرنسية، "ونحن في طريقنا للقيام بثورة بكل ما تعنيه الكلمة".

يستطرد الرجل في عرض مقاربته بأن هذه الاحتجاجات يجب أن تعيد السلطة للشعب من خلال حل البرلمان والحكومة وتشكيل ما يشبه "برلمان الشعب". يصر بشدة على دور الشعب في استعادة مقاليد السلطة وعلى عدم السماح للأحزاب السياسية أو النقابات بالتدخّل واستغلال الموجة الغاضبة. ولدى سؤاله ألا يخشى من انحراف مسار "السترات الصفراء" في ضوء ما حصل في تظاهرات باريس، يومئ الرجل برأسه موافقاً، ومؤكداً في الوقت نفسه إمكانية ازدياد وتيرة العنف لتصل في بعض الأحيان إلى "حرب أهلية إذا لم تستجب الحكومة لمطالب الشعب"، لكنه يضيف "نحن مستمرون بالاعتصام هنا بشكل سلمي وحضاري، ولن نذهب إلى باريس للتظاهر، ولكن كل الاحتمالات تبقى مفتوحة".

غضب على الإعلام
في مشهد يعكس غضب المتظاهرين من عدم تغطية وسائل الإعلام الفرنسية لكامل الاعتصامات في البلاد، وتركيزها فقط على أعمال الشغب في باريس، قابل المعتصمون في لابارك وصول مراسلة القناة الفرنسية الثانية إلى المكان بالتوبيخ والتأفف. صاح أحد الشبان بها: "لماذا لا تنقلون الحقيقة؟ لماذا تركّزون على باريس وتتجاهلوننا، نحنا هنا منذ ثلاثة أسابيع ولم تحدث أي مشكلة؟". حاولت المراسلة تهدئة المتظاهرين شارحة لهم أنها هنا لتتعرف على مطالبهم لنقلها للحكومة. ازداد ضجيج المعتصمين حول المراسلة مستنكرين تواجدها ومهنية الإعلام الفرنسي في التعامل مع الأحداث. ترد المذيعة بأن لديها خبرة في نقل الأحداث وقامت بتغطية العديد من الحروب في سورية والعراق ولبنان.

من بين المحتجين على التغطية الإعلامية، متظاهرة خمسينية، اسمها لورا، بات الكل يعرفها، فهي تقضي ليلها ونهارها في المكان منذ بداية الاعتصام. وضعت لورا لوحاً خشبياً وفرشته بغطاء تجلس وتنام عليه. حاول بعض الشبان إبعادها من أمام عدسات القناة التلفزيونية، فازدادت غضباً وذهبت باتجاه المراسلة قائلة: "اذهبوا من هنا". في حديث لـ"العربي الجديد"، تبرر لورا غضبها من وسائل الإعلام، بأن الأخيرة لم تذهب لمقابلة الفقراء والمشردين في الشوارع منذ سنين. تشرح هذه السيدة أنها على علم بأن منظرها في وسط الشارع يوحي بأنها مشردة بلا مأوى، ولكن في الحقيقة هي عاملة وفي إجازة مرضية الآن، وهذه هي الرسالة الوحيدة التي تريد أن توصلها "لقد تشردنا بسببكم".

تحرك ينتظم بشكل تدريجي
"سأستمر بالمجيء إلى هنا حتى تنتصر إرادتنا"، يقول أحد الشبان في المكان لـ"العربي الجديد". يشرح بأنه يعمل 25 ساعة في الأسبوع، وهو مصاب بإعاقة جزئية، ولذلك فراتبه لا يتجاوز 800 يورو بالشهر، مضيفاً "إنهم يسرقوننا. كيف يمكن ألا أحضر إلى هنا كل يوم؟". رجل آخر ينضم إلى الاعتصام من عمله مباشرة، يقول إن لديه عائلة وأولادا ولا يستطيع أن يحضر يومياً إلى المكان ولكنه متضامن مع "السترات الصفراء" إلى أبعد حد.
الهتافات وأصوات الشاحنات الصاخبة، أثارت حماسة أحد الشبان الموجودين في المكان، الذي طالب بفعل شيء ما، كإشعال النار في الألواح الخشبية على سبيل المثال، لكن بعض الحاضرين رفضوا ذلك، مشددين على ضرورة الالتزام بالهدوء والحرص على عكس صورة حضارية للتجمّع، فالعنف سيعطي ذريعة للشرطة للتدخل وإخلاء المكان، كما يقولون.

ولكن إلى متى يمكن أن يستمر هؤلاء المعتصمون في تحركهم؟ ترد فتاة في المكان لـ"العربي الجديد" بالإشارة إلى أن ما ينسيهم تعبهم ويحفزهم على الاستمرار هو التضامن والدعم الذي يقدّمه سكان البلدات المجاورة لهم. تضيف أخرى أن كل ما هو موجود من طعام ومشروبات يقدّمه لهم مجاناً مواطنون من أصحاب الحرف والمهن المختلفة، فمطعم البيتزا المقابل يزودهم بوجبات كافية بشكل شبه يومي، والخباز يرسل لهم الخبز وغيره من المعجنات. كما أن كل من يحضر للمشاركة يحضر شيئاً معه.

تتحدث الفتاتان عن دور موقع "فيسبوك" في التنسيق والتنظيم لهذا الاعتصام، فكلما ينقص أي شيء يتم طلبه من أعضاء الصفحة ومن ثم تلبية الطلب ممن لديه الوقت. تساعدهم الصفحة أيضاً في ضمان تواجد أشخاص في المكان، ليلاً ونهاراً. تعود الاستمرارية في الاعتصام، بحسب الشابتين، إلى تناغم أفراد المجموعة الذين أصبحوا يعرفون بعضهم بشكل جيد. يتقاسمون المهام والحضور، فالشبان والشابات العازبون والعازبات يقومون بالمناوبات الليلية، بينما يدعمهم الباقون من المتزوجين والمتقاعدين بالحضور في أجزاء من الليل وخلال ساعات النهار. وعلى ما يبدو، فإن أعداد المنضمين للاعتصام في تزايد مستمر، ويسعى أصحاب "السترات الصفراء" في هذا المعبر إلى جذب وتشجيع المزيد من المواطنين للحضور لمساندتهم. ضمن هذا السياق، أطلقت صفحة "فيسبوك" الخاصة بالمجموعة، مبادرة لجمع لعب الأطفال لتقديمها كهدية للجمعيات التي تساعد الأطفال المحتاجين خلال فترة الأعياد.

المساهمون