الدور الثاني للانتخابات الرئاسية التونسية: عودة إلى شعارات 2011

الدور الثاني للانتخابات الرئاسية التونسية: عودة إلى شعارات 2011

19 سبتمبر 2019
أثبتت هيئة الانتخابات أنها مستقلة (الشاذلي بن إبراهيم/Getty)
+ الخط -
حسمت الهيئة العليا للانتخابات التونسية أمرها، وقفزت فوق كل النقاشات والتلميحات والتسريبات التي رجحت أن تتّخذ موقفاً مما وُصف بالجرائم الانتخابية التي يمكن أن تغيّر النتائج، وأقرّت نهائياً عبور المرشّح المستقلّ قيس سعيّد، ورئيس حزب "قلب تونس" المسجون نبيل القروي، إلى الدور الثاني. وألقت الهيئة بذلك الكرة الملتهبة في ملعب القضاء والبرلمان المقبل في شأن "الجرائم الانتخابية" وتداعياتها، نائيةً بنفسها عن تحمّل مسؤولية جسيمة من هذا النوع، على الرغم من الاختلاف الواضح في تصريحات أعضائها، والذي حاولت كتمانه في الندوة الصحافية أول من أمس الثلاثاء، وظهرت بصورة الهيئة المتضامنة. ويأتي ذلك فيما تتوجه الأنظار إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية ومسارها وشعاراتها بالنسبة للمرشحَين المتأهلين وداعميهما.

وعلى الرغم من أنّ هيئة الانتخابات لم تخض في مسألة سهرها على نزاهة السباق الرئاسي في كل مراحله، إلا أنها أثبتت بالفعل أنها هيئة مستقلة، تقدّس صوت الناخب وتجعله فوق كل الاعتبارات. ولا شكّ في أنّها منحت تونس مرة أخرى خطوة جديدة على درب الانتخابات الحرة والديمقراطية، وليس من دليل على ذلك أفضل من كونها حافظت على إرادة الناخبين المطلقة في اختيار شخصيتين من خارج المنظومة السياسية وضدّ الحكومة، ما أكد للتونسيين أولاً، ولمراقبي تجربتهم من الخارج ثانياً، أنها نموذج ديمقراطي يتأكّد يوماً بعد يوم.

وينصبّ الاهتمام اليوم على الدور الثاني الذي سيتنافس فيه قيس سعيّد ونبيل القروي. وتذهب تحليلات كثيرة إلى اعتبار ما حصل في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية المبكرة، من إقصاء لمنظومة الحكم والمعارضة، ردّ فعل شعبيا عاما يعود إلى عناوين الثورة الكبرى "شغل، حرية، كرامة وطنية"، ويعاقب هذه المنظومة التي فشلت في تحقيق ذلك. 

وعلى الرغم من أنّ القروي يمثّل عند كثيرين الصورة المناقضة تماماً لسعيّد، شكلاً ومضموناً، فإنّ التونسيين اختاروا كليهما لمواصلة المنافسة، ما يستدعي جهداً تحليلياً كبيراً لفهم ميكانزمات الاختيار لدى الناخب في هذه المرحلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

ولكن المواقف التي برزت حتى الآن تشير إلى أنّ المشهد بصدد استعادة شعارات عام 2011 مباشرة بعد قيام الثورة، عندما اصطفّ معسكران؛ الثورة والثورة المضادة. وعلى الرغم من أنّ كثيرين قالوا إنّ تلك الشعارات وقضايا الهوية قد تمّ تجاوزها، إلا أنّ الظاهر أنها لم تنته ولم يتم حسمها. في السياق، أعلن المرشّح، الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، في منشور على صفحته الرسمية بموقع "فيسبوك"، دعمه للمرشّح قيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. وقال المرزوقي: "أعلن عن دعمي الكامل للمرشح الأستاذ قيس سعيّد في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية انتصاراً لقيم الثورة ولروح الدستور، وتواضعاً أمام حكم الشعب".

بدوره، أعلن المرشح الرئاسي سيف الدين مخلوف، أنه سيدعم أيضاً سعيّد في الدور الثاني. وقال في حوار إذاعي أمس: "نحن لا نتعامل مع المافيات والأشخاص المشبوهين (في إشارة إلى القروي)، وقيس سعيّد صاحب مبادئ ونحن نتقاسم معه الكثير"، مضيفاً "قيس سعيّد شخصية نظيفة ومثقفة وسندفع باتجاه توليه الرئاسة". من جهته، قال المرشّح الرئاسي لطفي المرايحي في حوار على القناة الوطنية التونسية، أمس، إنّ "انتصار قيس سعيّد وعبوره للدور الثاني، هو انتصار للتيار الثوري الذي يضم في النهاية (المرشحين) محمد عبو، وسيف الدين مخلوف والصافي سعيد". وأضاف أن "قيس سعيّد سيواجه مرشحاً احترف الزبونية، ويريد استغلال حاجة التونسيين، وهي عقلية تعودت عليها بعض المناطق في الجمهورية منذ الأنظمة السابقة".

وجدد المرايحي دعمه لسعيّد في فيديو نشره على صفحته بموقع "فيسبوك"، على الرغم من عدم اطلاعه على مشروعه، بحسب ما قال، موضحاً أنه لا يمكنه دعم نبيل القروي. وأكّد المرايحي أنه لا يمكنه إلا الانحياز إلى شق قيس سعيّد لأسباب عدة، أولها أنه في الشق الثوري الذي يريد التغيير والخروج من المنظومة الحالية، فضلاً عن أنه لمس أنه إنسان نظيف وتصرفاته تدلّ على أنه إنسان بسيط ومن عامة الشعب.

كذلك، أعلن حزب "التيار الديمقراطي" الذي يرأسه المرشّح محمد عبّو دعمه لقيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. وقال الحزب في بيان له أمس: "أمام الخيارات المطروحة في الدور الثاني، فإننا ندعو التونسيين إلى التصويت للأستاذ قيس سعيّد، مع التأكيد على مواصلة التيار الدفاع عن قيمه وتوجهاته، واحترام الدستور وعلويته، والدفاع عن الحريات العامة وحقوق كل التونسيين، والنضال من أجل كسب ثقتهم وتحقيق نتائج أفضل في الانتخابات التشريعية".

وفي الإطار نفسه، خرجت شخصيات عدة من حركة "النهضة" لتؤكد دعمها لسعيّد. وأعرب نائب رئيس الحركة علي العريض، عن دعم "الأقرب للناس ولحماية الديمقراطية والثورة وأهدافها، والبعد عن الشبهات والفساد".


بدوره، كتب القيادي في "النهضة"، عجمي الوريمي على صفحته بموقع "فيسبوك"، أنه "عندما تأخّر قرار قيادة حركة النهضة ومجلس الشورى في حسم موضوع المرشح الرئاسي للحركة، بدأ يتكوّن رأي عام داخل قواعدها ومناضليها حول العصفور النادر. ولو أجرت النهضة استفتاء داخلياً، لكان قيس سعيّد يحتل مرتبة متقدّمة في نوايا التصويت عند ناخبي الحركة، لاعتبارات يطول شرحها".

كذلك، أكّد القيادي في حركة "النهضة"، عبد اللطيف المكي، مساندته لقيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، معتبراً أنه "الموقف الذي يمليه عليه واجب الانتصار للثورة وأهدافها". ودعا المكي في منشور عبر صفحته بموقع "فيسبوك" قيس سعيّد في حال فوزه بالرئاسة إلى أن "يعتمد على فريق رئاسي كفوء ومتوازن يساعده على حسن أداء دوره، ويبدد به مخاوف فريق من التونسيين".

ولكنّ رئيس الحركة، راشد الغنوشي، حسم النقاش، مؤكداً أنّ مسألة دعم سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية من عدمه، تعود إلى مجلس الشورى، وأنه لم يتم اتخاذ موقف بعد في ذلك. وأشار الغنوشي في ندوة صحافية عقدتها الحركة، أمس، إلى أنّ هذا الملف "يُبوّب ضمن السياسات الكبرى التي يتخذها مجلس الشورى".

وبينما أكدت كل هذه الشخصيات التي حلّ بعضها في المراتب العشر الأولى في ترتيب الشخصيات المتنافسة في الدور الأول من السباق الرئاسي، دعمها لسعيّد بسبب انتمائه للخط الثوري، سيكون القروي في المقابل مضطراً للبحث عن دعم من منظومة الحكم. غير أنه سبق أن أكّد أنه لن يتحالف مع حركة "النهضة"، وهو على خلاف حاد مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وسَخَّر كل جهوده بغية ضربه والقضاء عليه سياسياً، ويعتبر هذين الطرفين (النهضة والشاهد) وراء سجنه.

لكن ما يُعرف بالخط الوسطي والحداثي يرى في سعيّد خطراً حقيقياً، بسبب ما أعلنه إلى حدّ الآن من مواقف، وسيكون إمّا مضطراً لدعم القروي أو عدم خوض هذا السباق والاكتفاء بالتفرّج، ما يعني أيضاً دعماً غير مباشر لسعيّد. غير أنّ عودة الخطاب الثوري قد تقود أيضاً إلى تجميع القوى التي لا تستسيغ هذا الخطاب، وقد تعتبره تهديداً مباشراً لها، بما يقود إلى تعسكرها من جديد بعد أن توزّعت على أكثر من طيف.

وتشير الأرقام إلى أنّ منظومة الحكم التي ترشّحت لهذه الانتخابات، ممثلة في رئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزير دفاعه عبد الكريم الزبيدي ومرشّح حركة "النهضة"، رئيس البرلمان بالنيابة عبد الفتاح مورو، وبقية الأصوات الأخرى المنتمية للمنظومة نفسها، كمديرة ديوان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وزيرة السياحة السابقة سلمى اللومي، ووزير الصحة السابق سعيد العايدي، كلّها حصلت مجتمعة على نسبة 33 في المائة من مجموع أصوات الناخبين بحسب النتائج التي ظهرت، وهو ما يمثّل تقريباً ثلث الناخبين. بينما حصل ممثلو خارج المنظومة، قيس سعيّد ونبيل القروي والصافي سعيد ولطفي المرايحي وسيف الدين مخلوف على حوالي 57 في المائة من الأصوات، إذ نال سعيّد 18.4 في المائة والقروي 15 في المائة والمرايحي نحو 7 في المائة والصافي سعيد بين 6 و7 في المائة، ومخلوف نحو 5 في المائة.

وجاءت نتائج المعارضة مخيبة للآمال، إذ حصدت فقط حوالي 10 في المائة، كان أكثرها للمرزوقي بحوالي 4 في المائة، فيما توزّعت بقية النسب بين منجي الرحوي وحمة الهمامي وعبيد البريكي بـ1,6 في المائة للثلاثة، وحصل محمد عبّو على حوالي 4 في المائة أيضاً.

وحصل رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة على نحو 2 في المائة من الأصوات وزميله حمادي الجبالي على 0,2 في المائة. وجاءت مشتقات حزب "نداء تونس" في آخر الترتيب، إذ حصلت سلمى اللومي على 0,1 في المائة وسعيد العايدي على 0,3 في المائة وناجي جلّول على 0,2 في المائة.

وتشير حسبة الأرقام الداعمة لسعيّد إلى أنّه يتمتع بأفضلية على منافسه القروي، إلى حدّ الآن، خصوصاً أنّ المرشح الموقوف، لن يكون بإمكانه القيام بحملته الانتخابية. ويؤكّد بعض المتابعين أنّ سعيد الذي كان يحلّ في نوايا التصويت ثانياً، تجاوز القروي بعد مشاركته في المناظرة التلفزيونية، بما يدلّ على أهمية الحضور الإعلامي والتحرّك الميداني خلال الحملة، وهو ما يحرم منه القروي إلى حدّ الآن.